جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

المجلات الثقافية.. الرسالة والأزمة


فى ٢٣ فبراير ١٩٥٣ توقفت عن الصدور واحدة من أهم المجلات الثقافية فى تاريخ العالم العربى وهى «الرسالة»، بعد نحو عشرين عامًا من الصدور المنتظم، وكان مؤسسها ورئيس تحريرها أحمد حسن الزيات، صاحب الإسهام الفكرى المهم بعدد من الكتب منها «تاريخ الأدب العربى» و«فى أصول الأدب» وغيرهما، وكانت المجلة تضم مقالات وقصائد كبار الأقلام المصرية والعربية، وكانت تشجع الأدباء من الشباب الواعد، ومنهم نجيب محفوظ الذى نشر فيها حينذاك واحدة من قصصه المبكرة تحت عنوان «ثمن الزوجة».
وحين توقفت المجلة عن الصدور كتب «الزيات» افتتاحية العدد الأخير بعنوان «الرسالة تحتجب» يقول فيها: «فى الوقت الذى كانت (الرسالة) تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها وأولياء الثقافة والصحافة فى وادى النيل، وزعماء الأدب والعلم فى أقطار الشرق، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر.. تسقط (الرسالة) فى ميدان الجهاد الثقافى صريعة بعد أن انكسر فى يدها آخر سلاح»، أما السلاح الذى قصده «الزيات» فكان الضائقة المالية بعد أن أوقفت وزارة المعارف اشتراكها فى المجلة بشراء «٥٠٠» نسخة، ولذلك كتب الزيات يقول: «إنما التبعة فى خذلان الرسالة والثقافة على الحكومة بوجه أعم، وعلى وزارة المعارف بوجه أخص».
وفى حينه، حسب رواية د. نعمات فؤاد، فإن على أمين علق على توقف المجلة بقوله: «لو أن الحكومة أغلقت سفارتها فى الشرق وأبقت على (الرسالة) لكان خيرًا لها وأجدى على الشرق»، لأنها كانت منارة ثقافية تضىء فى العالم العربى كله، وينتظرها القراء فى كل قطر، بفضل ما تحتويه من تراجم وشعر وهموم ثقافية حقيقية، مكنت لتأثيرها الضخم فى تاريخ الحركة الثقافية.
فى حينه أدت الأزمة المالية وحدها لإغلاق أهم مجلة فى العالم العربى، أما الآن فإن المجلات الثقافية المصرية تعانى من أزمة ثلاثية الأبعاد: اقتصادية وفنية وتكنولوجية، تكاد أن تعصف بوجودها، فمن الناحية المالية تعانى المجلات المحدودة التى تصدر من ضعف الميزانية المرصودة التى تمنح المساهمين فيها ملاليم عن مساهماتهم أيًا كان نوعها، وتعانى أيضًا من قلة عدد النسخ المطبوعة التى لا تتجاوز فى المتوسط ثلاثة آلاف نسخة، وأيضًا من سوء التوزيع الذى لا يمنح الباعة نسبة مغرية من بيع المجلات ومن ثم لا يهتمون بعرضها.
من ناحية أخرى، فإن معظم المسئولين عن المجلات الحكومية موظفون فى الأساس، وليسوا أدباء كما كان الحال مع أحمد حسن الزيات، وأخيرًا فإن واقع انتقال الكلمة إلى العصر الرقمى يُضعف تأثير تلك المجلات.
ومع أن المجلات الثقافية بدأت فى الظهور منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومنها «الهلال»، إلا أن الأثر الكبير للمجلات الآن يتضاءل شيئًا فشيئًا بسبب ضعف الميزانية والمسئولين والتغيرات العلمية، ويصدر فى مصر عدد قليل من المجلات مقارنة بتعداد شعبها الذى بلغ مئة مليون نسمة، وتصدر الهيئات الحكومية عدة مجلات، منها «فصول، إبداع، عالم الكتاب، فنون، الفكر المعاصر، الهلال»، ومعظمها إما عديم التأثير من الأساس أو يعانى من عدم انتظامه فى الصدور أو من هروب الكتّاب نظرًا لضعف الأجور.
وفى الوقت نفسه يصدر عن المؤسسات الأهلية عدد من المجلات، منها: «ميريت، أدب ونقد، أماكن» التى توقفت للأسف، بينما يلجأ الشباب الآن إلى إنشاء مجلاتهم الخاصة على الشبكة العنكبوتية مثل أمير زكى وموقعه «الترجمان» وغيره من المنصات الثقافية.
ومن بين عناصر الأزمة التى تمسك بخناق المجلات يلوح عنصر تفادى تلك المجلات للقضايا الملحة، كما تهدد الثورة الرقمية وجود المجلات الورقية، وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن الباحث أحمد عبدالمالك قد حصل على درجة الدكتوراه عن رسالة له بعنوان «مستقبل المجلات الثقافية العربية فى ضوء التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية».
أظن أننا بحاجة إلى وقفة نسعف فيها تلك المجلات باشتراكات وزارة التربية والتعليم ومكتبات المدارس وغيرهما، لكى لا نقول يومًا إن المجلات الثقافية: «سقطت فى ميدان الجهاد الثقافى صريعة بعد أن انكسر فى يدها آخر سلاح»، ورحم الله أحمد حسن الزيات بقدر ما أعطى وبذل من أجل «الرسالة».