جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

يفعلها الصغار.. ويقع فيها الكبار


فى الزيادة الأخيرة لأسعار المحروقات رأيتُ وعيًا حكوميًا، لأول مرة، عندما مهدت إعلاميًا لهذه الزيادات، بعرضها الأسعار العالمية لسعر برميل خام برنت، وأوضحت ما تتحمله الدولة عن المواطن، فى صورة دعم لتر البنزين أو المشتقات البترولية الأخرى، ومقدار ما ستظل تتحمله لعام آخر بعد الزيادة المفروضة.
هذا الأمر منع كثيرًا من اللغط عند التطبيق الفعلى للزيادة التى جاءت مبكرة أيامًا عن موعدها، بداية شهر يوليو، وقلل من تأثير المحاولات المشبوهة، عبر وسائل التواصل الاجتماعى، لإثارة غضب الناس، دون أن يُدرك أصحاب هذه الحملات أن المواطن ما زال صابرًا جَلِدًا، فى انتظار أن تأتى «أفضل أيام هذا الوطن».. وما ذهب إليه وزير الكهرباء، قبل أيام، عندما أعلن عن مكافحته عشوائية فواتير استهلاك الكهرباء التى يقف وراءها بعض صغار قُرّاء العدادات، الذين يتكاسلون عن القيام بواجبات مهمتهم، على طريقة «يفعلها الصغار.. ويقع فيها الكبار»، فتتراكم القراءات، ويقع المواطن ضحية شرائح استهلاك مرتفعة.. وجميل ما ذهب إليه الوزير من تحذيره الشركة المسئولة عن هذه القراءات، وضرورة تعديل تصحيح أداء العاملين فيها، وإلا استبدالها، ففى ذلك إبراء لذمة الحكومة من كثير من العنت الذى يواجهه المواطن فى حياته اليومية.
ومع هذا يظل سؤالنا: هل نحن فى أزمة؟
سؤال قد يبدو طرحه الآن نوعًا من السذاجة المُفرطة، وما زال الطريق طويلًا حتى نخرج من مأزقه الصعب الذى ضاقت معه كل الحيل، وكلّت العقول فى حل أحجياته المعيشية، وسط دخول ثابتة وتكاليف تزداد أعباؤها كل يوم.. ولكن المتأنى فى قراءة السؤال ربما أدرك أننى لم أقصد طرح السؤال من هذه الوجهة، لأن ما هو معروف بالضرورة لا يمكن السؤال عنه.. إنما قصدت من سؤالى: هل نحن أمام حكومة مأزومة قبل أن نكون شعبًا مأزومًا؟.. لأنه إذا كان الشعب يقع عليه عبء الأزمة ونتائجها، فالحكومة هى صانعتها.. هذه هى الإجابة البديهية.. لكن حتى تلك الإجابة ليست من الدقة بمكان.
أزمة الدولة تكمن فى تلك الرؤية المتناقضة بين الحكومة والشعب، حول كيفية الوصول إلى بر الأمان.. فالحكومة تعرف أن عمر الإنجاز فى حياة الأمم يُقاس بالسنوات، بينما يؤمن الشعب بالحكمة القديمة «إحيينى انهارده وموتنى بكرة»، وهو الإيمان الذى لعبت على أوتاره كل الأنظمة السابقة، التى لم تشأ أن تدخل فى مواجهة من أى نوع مع الشعب، ولم تُرد أن تصدمه يومًا بأن تعافيه يُحتم عليه تجرع الدواء المُر، وعمدت إلى المسكنات، تجعل بها «كل شىء تمام»، بينما الانهيار يسرى فى اقتصاد هذا البلد، كما تسرى النيران تحت الهشيم، ولا أحد يرى لها دخانًا.. وكان ضروريًا، لفض الاشتباك بين طرفى الرؤية المختلفة، أن تتحلى الحكومة بالقدرة على «الإدارة غير النمطية»، التى توائم بين عقيدتها فى احتياج بناء الأمة إلى سنوات، من خلال مشروعات قومية تؤتى ثمارها على المدى البعيد، وبين حاجة الناس إلى مُتغير على الأرض، لا يحمل صفة الكمال، ولكنه يُنبئ بأن فى الأفق شمسٌ سوف تبزغ، تملأ الأرض نورًا ودفئًا.. وهنا تكمن عبقرية الإدارة، الفريضة الغائبة، ولب الأزمة الحقيقى.
نحن قد نتغلب على أزمة الموارد أو شح الإمكانات، لكن تظل أزمة «الإدارة العبقرية» هى الإشكالية الكبرى.. فالفرق بين نجاح مشروع وإخفاق آخر يكمن فى عقل إدارة هذا المشروع أو ذاك، بل إن «عقل الإدارة» منوط به اختصار الزمن فى عمر النجاح، وليس الاكتفاء بتحقيق ذلك النجاح.. أقصد بكلامى، الإدارة التى تدرك ما نفعل، وتملك الرؤية الشاملة لما نفعل، وتمسك بأدوات الفعل المؤدى إلى النتائج المرجوة.. الإدارة التى تُحسن اختيار الكوادر المسئولة عن الجزئيات المختلفة للعمل، بعيدًا عن أغراض الهوى.. الإدارة التى تملك إرادة مكافأة المُحسن، والقدرة على محاسبة المُخطئ واستبعاده، وتلك نقطة جوهرية.. فكم من مدير أو هيئة ما، أساء اختيار القائم على المهمة، ولم نحاسبه أو نحاسبها.. وكم من مسئول تم اختياره وهو غير كفء للمهمة الموكولة إليه، ولم نُحاسبه على قبول المسئولية على غير كفاءة منه أو مهارة.. وكم من مسئول أدار منشأة فأهدر إمكاناتها، وأضاع بعضًا من عمرها، وفرصًا بديلة كانت أمامها، ولم نتوقف أمام كشف حساب إنجازاته أو إخفاقاته، ولم نوجه له «لومًا»، حتى من قبيل ذر الرماد فى العيون، وبيان للناس أن هناك مَنْ يراقب ويحاسب، فيدفع ذلك إلى الحذر، والتفكير ألف مرة، قبل قبول المنصب أو رفضه، فهل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟، بل هل يستوى الذين يعملون والذين لا يعملون؟.. لا يستويان.
سوء الإدارة هو المسئول عن شعور الناس بالأزمة، عندما تتهاون الحكومة فى المراقبة والضرب على أيادى الخارجين على اتفاق الناس والتفافهم حول مشروعاتهم، المستغلين حاجاتهم خلال الأزمة الاقتصادية دون مساءلة.. فمن الممكن أن يتجرع المواطن الدواء المُر لعلاج أوجاع وطنه، إذا رأى أن الكل «فى الهم شرق»، دون تمايز طبقى أو مهنى.. فالأمة التى تخوض حرب البناء والبقاء عليها أن تفرض قوانين تلك الحرب على الجميع دون تفرقة، ومن خرج عن الإجماع، استحق العقاب بقبضة من حديد، عمياء، لا ترى إلا العدل بين أبناء هذه الأمة، وعلى الكل أن يتقاسم العنت، ويتحمل نصيبه من تبعات المسئولية.. ولا يكفى هنا متابعات وتعليمات رئيس الوزراء، الذى يجب أن يتفرغ لاستراتيجيات العمل فى الدولة، وهناك من هو مسئول عن المتابعة والرقابة، وهم أولى بإنزال العقاب على الذين يمتصون دماء الناس، ولا من حسيب.. فهل يُعقل أن يكون سعر البيع للمستهلك، من الخضروات والفواكه واللحوم والأسماك، أضعاف ما هو عليه فى سوق العبور، كما تحدث بذلك أحد مسئولى هذه السوق عبر التلفاز؟. أخلص إلى القول، بأن الإدارة غير التقليدية هى من تخطط مشروعاتها ببراعة، وتقوم على تنفيذها، فى أقل زمن، وبأقل تكلفة، والأهم من ذلك، مراقبة الأداء وتأثيره على المواطن، وحساب تكاليف الثمار والالتزام بها، دون استغلال، زيادة أو نقصان.. وقبل ذلك كله.. اختيار الشخص المناسب للمهمة المناسبة، وبتجرد عن الهوى.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.