جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الزمن الأسطورة والأزرق الحار


■ ظلك غيمة روحى.. أود أن أتتبع خطواتك كحارس يستمد كيانه من أمنك.. ماذا لو تبادلنا أنا وساعتك الأدوار فألتف حول معصمك الصغير، وأستكين إلى نداوة جلدك، وأمنحك زمنك الذى ترغبين، فتدور عقاربى تبعًا لنبضاتك، تسرع وتبطئ وفق ما تحتاجين؟..هل سيصدمك أن تعرفى أنه لا يوجد زمن؟. حداثيتك والهِدفون الملتف حول رأسك امتصا صدمتى حين قرأت أن الزمان نسبى، وأن الفضاء والوقت لا وجود لهما، بل إنهما يعتمدان عل سرعة الحركة، بل إنك تشرحين لى المعنى بأريحية وثقة لم أملكهما يومًا: ماما، تمر ساعة اللعب أسرع كثيرًا من ساعة الحساب، فأصدقك، ولا أزيدك بأن عقارب روحى تتشتت ويصيبها فتور وهمدان فى الساعات الثمانى التى تغيبين فيها عنى، ما بين توديعة «باى مام» وترحيبة «ماما، ماما».
■ مريم، هل تتصورين أن الخط المستقيم يظل مستقيمًا على مدى رؤيتنا فقط، لكنه فى حقيقته، فى لحظة ما، ينحنى ويتحول لقوس، وأن هذه الأقواس والمدارات والدورات والانحناءات هى الأبدية، ولا يوجد مستقيم أبدى، أى صدمة علىّ أن أستوعبها، هل يتعارض هذا مع مفهوم الاستقامة؟، قل الله ثم استقم، أم أن فى هذا إشارة أو دلالة أو شهادة على محدوديتنا، وأن الاستقامة تكون فى نطاقنا؟. كنت أقول لحبيبى إن الحب والتحنان لا يكونان بين شخصين يقفان باستقامة، لا بد من إزاحة ما، وضعية الجسم تكون غير متعامدة على الأرض على موضع الارتكاز.. لا بد من التموضع بزاوية حادة أو منفرجة كى يمكن لشخص أن يحتضن الآخر.. يضحك مدرب الجيم وأنا أؤدى تمارين استقامة الظهر وهو يقول لقد أخذت منك الأمومة الكثير.. كيف لأم أن تحتوى طفلتها، أن تحضنها، أن تركز فى ملامحها دون أن يتحول أعلى ظهرها لقوس؟!.
■ مريم، أنا أدور فى دوائر وكلما دخلت دائرة انتقلت لدائرة أكبر وأكبر، تتوالد الدوائر، المعرفة الإنسانية موجات متداخلة لا تنتهى، فقط، أنا التى أجهل وجودها وكلما دخلت دائرة اكتشفت عمق جهلى وضحالتى وفراغى، أنا خاوية يا صغيرتى بجانب مدارات المعرفة الممتدة.. ماذا علىّ أن أفعل فى خضم هذا الموج المتلاحق؟، أنا نيترون فى ذرة فى مادة فى جزىء.. إذا كانت المجرات.. أنا مجرد نقطة.. تقاطع خطين، تدرك ضآلتها فى كون مستمر فى تمدده وانبساطه، وأنا أحاول اللحاق بالقطار الذى يسبقنى طوال الوقت، مرة بحكم الأسبقية ومرة بحكم الزمن والساعات المحدودة المتاحة لى، ومرة حسب القدرة حيث تمرض آلتى وتحتاج للنوم والطعام وتقوم بأدوار متعددة كأم وأخت وخالة وعمة.
■ مريم، علىّ أن أراجع «بروشور» السوبر ماركت وفاتورة مشترواتى للتأكد من أننى اشتريت «الكورن فليكس» الذى عليه خصم، أم يدى امتدت للعلبة المجاورة.. هل هذا شىء يستحق الاهتمام؟. المسألة يا صغيرتى ليست المال ولكنى أطمئن على ذاكرتى، على قدرتى على الخروج من تفكيرى فى الشكل المخروطى للكون الذى يجبر كل من يقترب من جدرانه على الانحناء والدوران، إلى التفكير فى كيفية تقليل السعرات الحرارية التى تدخل جسمى، والمفاضلة بين شراء «النيترو فيت بالفراولة» أم «بسكويت الشوفان»، وأن العالم قديم وكبير وهناك بشر كثيرون كانوا يفكرون خارج اهتماماتهم اليومية.. خارج البديهيات.. خارج الصراع والمطالبة بمزيد من الديمقراطية والمزيد من الوعى، والمزيد من المشاركة السياسية.. بشر هناك كانوا يمتلكون رفاهية تأمل السماء والوقت.
■ مريم، هل يولّد الشغف بالمعرفة حزنًا؟، أم أنها الخديعة والضربات القاصمة لتصوراتنا السابقة عن الحياة؟.. لافتة التحذير مضاءة دائمًا، لكننا نتغافلها.. تخدعنى عيناى واللون الأزرق الهادئ.. للبحر، للأفق.. ليس لونًا باردًا كما يبدو.. اللون الأزرق القريب من الأبيض يحتاج لحرارة كبيرة كى يظهر، السلام، الهدوء، السكينة، كلفتها طاقة عالية، لا تستطيع أرصدة الكثيرين تمويلها.. فعلىّ الآن أن أكتفى بمصباح أحمر صغير، تتحمل كلفة طاقته نقطة متناهية الصغر فى مدارات الوجود.