صراعات دامية للخروج من قوقعة السواد في رواية المتحرر من سلطة السواد
تستقبل المكتبة العربية مولود أدبي جديد تتمثل في رواية ( المتحرر من سلطة السواد) للكاتب الشاب عبد المنعم بن السايح الصادرة عن منشورات الرابطة الولائية للفكر و الإبداع بالوادي بدولة الجزائر التي تعبر أول عمل روائي للكاتب .
و تدور أحداث الرواية عن قصة إنسانية محزنة لطفلٍ فَقَد بصره في حادث يومي مما جعله يقف أمام واقع مرير محتارًا كيف له أن يستكمل حياته بلا نظر و اعتبر هذه الإعاقة نهاية حياتِه و أنه بدون بصر هو مجرد عدم مما جعله يتساءل " من أين سأبدأ ؟ الظلام لا حدود له , أنتم لا تشعرون بي , لا أحد يفهمني , لو كنتم مكاني لفهمتم ما معنى أن يصبح الإنسان لقمة يمضغها فم الظلام " فهذا المقطع من الرواية أوصل لنا مدى الألم الداخلي الذي يصاب به كل شخص فَقَدَ البصر فجأة بعد أن كان يَرَى فجأةً يُصبح أسير السواد .
و لكن الكاتب لم يجعل من بطله شخصية انهزامية بل جعله شخصية إيجابية مشبعة بالأمل / التفاؤل برغم من المصاعب الذي واجهها , فالبطل لم يقف عند حد الفشل و الانكسار و الاستسلام لواقعه بل قرر التحدي و المحاربة و بدأ أولًا بمحاربةِ ذاته الخاضعة , ثم حارب شفقة المجتمع له لأنه لا يريد أن يصبح شخص يثير الشفقة بل قرر أ يحذف كلمة " الضرير , الكفيف , الأعمى المسكين " من قاموسهم .
فقد واجه بطل الرواية صراعات دامية للخروج من قوقعة السواد و العزلة التي صنعها له قدره , و أول تحدي واجهه صراعه مع الذات للخروج بها من عالم اليأس / الإحباط / الفشل إلى عالم أكثر جمالًا عالم مليء بالأمل / النجاح / الاستمرارية حيث يقول البطل مخاطبًا ذاته : " عليَّ أن أصير جديرًا باللون الأسود , الأسود ليس ضاحكًا كالأخضر أو مبتسمًا كالأصفر , ليس غاضبًا كالأحمر أو مبستمًا كالأزرق , إنه مملكة مجهولة للكثيرين , مملكة تفتش عن ملك جدير بالقيادة " , و يقول أيضًا مخاطبًا ذاته يبشرها بالأمل القادم : " شيء ما بدأ يتغير بداخلي , ضوء في آخر النفق ينادي , أمي و أبي و أخي كلهم ينتظرون خروجي من النفق , بدأت أبحث عن المفاتيح لأصير جديرًا بحكم مملكة السواد " , و من هنا نجد أن البطل قد أصبح شخصية أكثر إيجابية متحديًا بذالك السواد فقد إستغل هذا الفراغ الفسيح الذي غزى أيامه , و تصفح ذاته باحثًا عن سلاح ليطرد به العتمة فوجد بداخله طفل موهوب جدًا , فقد أصبح عازف بيانو مبدع ؛و عبقري حساب ؛ و في الأخير أصبح كاتب روائي ناجح , فالظروف المريرة جعلت منه مبدع .
نجد أن الكاتب أول لنا الإحساس الذي يعانيه الكفيف باحترافية و لخص لنا المصاعب الذي تواجهه و هو يشق طريف التحدي للتخلص من عقبة السواد , فلقد أوصل لنا تلك الكتل من الأوجاع و العواطف بأسلوب سهل الممتنع و شاعري و يحمل الكثير من الرؤيا و خاصة في فلسفة الألوان نظرًا لكون والد بطل الرواية فنان تشكيلي , و هذه العلاقة علاقة الأب و البطل جعل منها الكاتب عطاء فكري لتفسير الألوان التي لا يراها الكفيف و يتحسسها على طبيعتها لكي يختار أن يقتل بداخله السواد أو يقتله السواد بداخله مدى الحياة .
و في رحلة الإبحار في معالم الرواية لا يطال الملل ذهن القارئ , لأن الرواية تحوي الكثير من التشويق لتدفعنا لإكمالها في وقتٍ وجيز , لأنها تحوي أحداث مثيرة و مليئة بالألم التي تجعل القارئ أكثر وعيًا بهذه الفئة من المجتمع .. و كما لا يخفى على القارئ أمر في غاية الأهمية و يكمن في حضور القضية الفلسطينية في الرواية حيث يقول الكاتب على لسان بطله : " لا حزب لأبي إلا حزب الألوان , و لا طائفة له إلا الجمال , عيناه لا تبصران إلا فلسطين , و قلبه لا يخفق إلا للبندقية توجه رصاصها إلى الكيان الفلسطيني الغاصب " .
فعلا رواية المتحرر من سلطة السواد تستحق القراءة , لأنها تحمل بعد معرفي و إنساني , تتجلي في الرسالة التي طرحها الكاتب بالالتفات إلى هذه الشريحة من المجتمع التي نحكم عليها بالإعدام و التهميش بمجرد أنهم بالنسبة لنا معاقين , ناسين بذالك أن الإعاقة تكمن في إعاقة البصيرة و ليس البصر , و في النهاية ننهي قولها بقول بطل الرواية معلنًا تحرره من السواد إذ يقول :" يا أيها السواد ؛ مللت التأمل فيك كحرف يتحول في قاموسي باحثًا عن معنى , سأجعل من وحيك كل المعاني فقط لأقتلك .. فها أنا ذا تحررت من سلطة السواد , و اصبحتُ عازفًا و عبقري حساب و كاتب ينسج من جمال الكون الذي لا يراه حروفًا تسحر الأفئدة "