رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التحليل الاجتماعى للتحولات الفكرية وأهداف الثورة


خرجت الثورة المصرية لتحرر العقول والتوجهات من كل تبعية ومن أجل خلق شعور عام يحقق نسيم الحرية فى كل من الأقوال والأفعال، وكذلك من أجل الخروج من كبت السنين الطويلة التى رزح الشعب تحت سياطها محروماً من أى حرية سوى حرية الشعارات وحرية التنفس، وكان دأب النظام السابق يسير على أساس أن كل من يطل برأسه يتم القضاء عليه وذلك من خلال أسلوبين: الأول إما أن يتم دفعه وإعطاؤه مكانة، وإما سلطة تمهيداً لخفضه وتنكيسه ثم اختفاؤه من الساحة. والثانى: يتم عن طريق القضاء عليه مباشرة بأساليب متعددة أيضاً.

ومما هو جدير بالذكر أن النظام السابق مباشرة قد استفاد من الأنظمة التى سبقته استفادة خبراتية فى التعامل الملتوى مع الشعب، وذلك بهدف تحقيق مأرب نهائى هو قمع الحريات والتأكيد على سيادة الديكتاتورية وحكم الفرد.

نوضح فى السطور التالية أبعاد هذه الاستفادة، حيث اتبع نظام الحكم بعد ثورة 23 يوليو 1952 مباشرة أسلوب القمع المباشر لكل من يطل برأسه منادياً بفكرة الحرية، وكان هذا القمع المباشر يتم بأسلوب بوليسى بحت، حيث كان ينهج أساليب السجن والتعذيب وذلك باستخدام طريقة ما سمى بـ «زوار الفجر»، وذلك من أجل القضاء على كل معارض أثناء محاولات تخبطية غير مدروسة لإقامة ما سمى بـ«العدالة الاجتماعية»، وانتهكت فى ظل هذا العهد ما سمى بـ «حقوق الإنسان» ومنها تنفس الحرية وإبداء الرأى، وكانت النتيجة الحتمية لهذه الأساليب اختتام هذه المرحلة بهزيمة يونيو 1967 واحتلت إسرائيل ما لم تكن تحلم به فى أحسن الظروف، وضاعت مقدرات البلاد تحت وطأة حكم الفرد.

وجاء النظام التالى لهذا النظام محاولا القضاء على ظاهرة «زوار الفجر» وإتاحة الفرص لتنفس بعض الحريات، وإزالة بعض السجون تمهيداً لشراء قبول شعبى وإبراز ثمة فرق بينه والمرحلة السابقة عليه، والسعى لتحقيق ما سمى بـ «الديمقراطية»، ولكنها كانت ديمقراطية ذات أنياب ومخالب يملكها النظام الحاكم وحده ليوجهها كما يشاء.

وجاء عهد النظام السابق مباشرة ليستفيد من أخطاء النظامين السابقين عليه مباشرة استفادة حقيقية من أجل التمكين له بالبقاء أطول فترة ممكنة، فحاول تكريس الأمن لخدمة واستمرار وبقاء النظام نفسه، وبالتالى تم قمع الحريات المقيدة فى التحدث والكتابة، حيث كانت هذه الحريات فى حدود السقف المسموح به فى ذلك الوقت ولا تتعداه ومن ثم كانت هذه الحريات سواء فى التحدث أو الكتابة غير مؤثرة، ولم تجد نفعاً فى التغيير أو الضبط أو الانضباط، ولم تكن منتجة لأى أثر طالما أن تلابيب الأمن كلها فى أيدى النظام ومن أجله.

وترتب على هذه العهود ومساراتها سيادة مظاهر النفاق والتملق، وذلك من أجل تفادى البطش والتنكيل، أو من أجل بعض المطامع فى الحصول على مكاسب، سواء أكانت هذه المكاسب متمثلة فى الحصول على مركز أو سلطة أو الطموح فى مكانه، فيتقلب من كان معارضاً إلى مؤيد ومدافع عن النظام، بل ومن الداعية للدفاع والإتيان بمبررات تقنع الناس بمزايا النظام ومحاسنه والإشادة بمواقفه الوطنية حتى يوهم الناس بأن الوضع الراهن هو أفضل الأوضاع.

ونظراً لأنه لا يكتب البقاء إلا للصحيح، وأن الخداع لن يعيش أبد الدهر قائما قوياً، بل إنه لابد له من الانهيار، خاصة أن النظام كان قد اتبع أسلوباً قمعياً ظاهره الرحمة وباطنه فيه العذاب، مستغلاً مؤسسات الدولة فى تحقيق مآربه، فقد كانت معاقبة الخصوم وكل من يطل برأسه تتم عن طريق مؤسسات الدولة الرسمية، حيث كانت تجهز التهمة وتحاك خيوطها ويعلن عنها فى الصحافة والإعلام للرأى العام من أجل كسب اتجاه للرأى العام ضد الخصوم ثم تحال التهم إلى دوائر بعينها تابعة للنظام، مستغلاً فى ذلك مؤسسات الدولة بتلفيق التهم وإحكام الخية، تمهيداً لإصدار أحكام رادعة ضد هذه الخصوم أو ضد كل من يطل برأسه أو تسول له نفسه بالخروج على السمع والطاعة.

وقامت ثورة يناير من أجل التحرر من كل تبعية، ومن أجل تبديد الخوف فى نفوس الناس والإعلاء من كرامة الإنسان وشأنه وحريته فى إبداء الرأى دون خوف، والتخلص من كل مظاهر الفساد السياسى والاجتماعى السابق الإشارة إليها، غير أنه قد لوحظ فى الفترة الأخيرة بعض التحولات فى الكتابات المعاصرة والآراء الصادرة عن بعض المشهورين فى مصر من ذوى الأقلام، وشهدت هذه التحولات ـ للأسف الشديد ـ تناقضات فكرية فى كثير من الأحيان، وارتبطت فى كثير من الظروف هذه التحولات بالحصول على مكاسب بعد الثورة مثل الحصول على مراكز أو مكانات مرموقة أو حتى مجرد الوعود.

غير أن أخطر ما فى هذه التحولات عدم القراءة الواعية للتطور التاريخى للمراحل السابق الإشارة إليها، وأن أهداف الثورة فى يناير تركزت حول التحرير من الخوف، وأن يكون العام مقدماً على الخاص، وأن يتم تعزيز الانتماء للوطن كله وليس لفصيل أو نظام.

فقد قام بعض الكتاب بالإشادة بقرارات تحويل بعض الخصوم السياسيين إلى محاكمات عن طريق مؤسسات الدولة الرسمية وتحولت دفة الكتابة لهؤلاء الكتاب إلى أقصى درجة ممكنة من حيث الإشادة بكل قرار يصدر عن النظام الحالى دون النظر إلى تحليل دقيق وعميق لأوضاع هذه القرارات ومردودها على المجتمع وأهميتها فى إعادة الأمن والانضباط المفقود وانعكاساتها فى تحقيق رخاء يشعر به الناس مباشرة.

نحن فى حاجة إلى التطهير من كل فساد سابق دون تصفية حسابات أو تنكيل بخصوم حتى يتم احترام أهداف الثورة كاملة، وحتى نتجنب إعادة إنتاج أى شكل من أشكال النظام السابق.

■ العميد الأسبق لكلية التربية ـ جامعة الأزهر