الهزيمة الحضارية
إنه تسلط النفس العربية التى فرضت نفسها على الإسلام والمسلمين بعد وفاة الرسول الكريم بكل ماحوته من صراع تاريخى وتعقيد وخلل فى المفاهيم والأصول ونظم استبدادية قبلية ضاربة فى أعماق التاريخ، وجعلت المسلمين بعد أربعة عشر قرناً من بزوغ نورالإسلام الوضاء فى موقف
دفاعى محض، فى موقع العزلة عن البشرية، والتقوقع على الذات، والتعلق بالمقدس و«الطوطم» لسد عجزهم وحجب هزيمتهم الحضارية بين الأمم والشعوب، مما أحجمهم عن مجرد المشاركة والتفاعل مع انجاز الحضارة الإنسانية الهائل فى كل مجالات الحياة، وأشعرهم بهشاشة موقفهم أمام الآخرين، فهم يهتزون ويموجون لأقل زوبعة تبعاً لذلك الإحساس، وهذا يفسر ذلك الحراك والتشنج المبالغ فيه لمجرد قيام فرد أحمق فى بلد بعيد بعمل فيلم ساذج رخيص يتطاول فيه على قامة الرسول الكريم، إن الرسول الذين يدَّعون نصره بالصياح والضجيج وإثارة الغوغاء ليس بمهزوم، فقد نصره الله وكفاه المستهزئين، أما هؤلاء المتشنجون فهم المهزومون حقاً، فى الحضارة والشكل والمضمون، وهم فى أمس الحاجة لمن ينقذ مجتمعاتهم التى تقوم على الوصاية والمحاذير والفوبيا، وترزح تحت سطوة واستبداد الكهانات التى ابتدعوها، فى الوقت الذى يقوم فيه مجتمع الإسلام الحق على مفاهيم الحرية والمرونة والانفتاح الإنسانى والتجدد والكرامة البشرية.
إن النفس العربية التى اختطفت الإسلام وادعت امتلاكه لم تؤسلم العروبة أبداً، بل عرَّبت الإسلام بكل وضوح إثر الفتنة الكبرى، والتى شكلت أوَّل نزاع واسع النطاق جعل بأس العرب المسلمين بينهم، يقتل بعضهم بعضاً، فى صراع عربى عربى صريح، شكل ارتداداً واضحاً إلى مفاهيم تراثها الاجتماعى الجاهلى القبلى العتيد، والتى أبت أن تترك الإسلام وما دعا إليه من حرية وإباء، فدلفت بدهائها من نفس بابها القبلى الأول وهو إغراء الحكام بمفاهيم السيطرة والاستبداد كعهدها بهم، فأقامت على أنقاض الفتنة الكبرى مفهوم الإمام المعصوم تارة وخلافة الله فى أرضه تارة أخرى، واجتهد الكهنة الجدد فى تخويف الناس من مخالفة هؤلاء الملوك والمعصومين، واتخذوا بما افتروه على الرسول من أحاديث منحولة أداة لهم لتكريس مفاهيم الشكل، وتأسيس منهجية عروبية منحولة دخيلة على هيكل الإسلام الفكرى وصحيح منهجه، بعد أن استعصى عليهم القرآن المحفوظ فى الصدور، تلك الافتراءات التى سولت للحكام الظالمين ضرب ظهور الناس وأخذ أموالهم دون حساب أو مخافة عقاب، وأسست المفاهيم التى قامت عليها بعد قرون تلك الهجمة الوهابية النجدية التى ارتبطت بذلك المفهوم العربى الاستبدادى، فاتخذت من الدين شكلاً وآمنت بالتقليد القبلى العربى منهجاً ومضموناً، يشكل مفهوم الإسلام عندهم ويلزم للمسلم أن يتبعه لديهم، وهذا يفسر مفاهيم الجلباب واللحية المرسلة والنقاب العربى الأسود، وهى مفاهيم مرتبطة بقضية الإيمان عند هؤلاء، أرسوها كأركان للدين، لا يكمل إلا بها، ولا يستقيم إيمان المرء إلا باتباعها.
لم تكتف النفس العربية بالفتنة الكبرى بل أسست لفتنة أكبر وأدهى، قامت على تكفير الناس وإخراجهم من الملة، ذلك أن الفتنة الأولى إنما وقعت ابتداءً نتيجة الخلافات السياسية بين أصحاب الأمر فيها، وكانت صراعاً بين المسلمين كعرب، لا فتنة للإسلام كدين، اتخذت من الحرص على الحكم وولاية الأمر فى بدايتها سبباً للصراع، ولم تقم فى الأصل على خلاف عقائدى رئيس، أو على تكفير واضح ومؤسس من طرف لطرف، أما فتنتنا الأكبر فقد قامت على دعوات وهابية تكفيرية مباشرة قامت بنشر العداوة والكراهية والبغض بين المسلمين أنفسهم باسم الدين ذاته، استخدمت تفسيراً مناقضاً لروح الإسلام ومفهومه الأصلى، بل وأسست خطاباً دعوياً يقوم على الإقصاء والمواجهة والتقسيم والتخلف، ويدعو لعودة مفاهيم الغزو والقتل والسبى بمفهومه القبلى العربى، ووظفت مفهوماً منحرفاً للجهاد تحت هذا الزعم، وجعلت من الدين حرفةً لا سلوكاً، وغايةً لا سبيلاً، وجعلته رهباً لا رغباً، ومفهوم كثرة غالبة تجاه قلة مغلوبة، واتخذت من العبادات شكلاً ديناميكياً متبوعاً، لا جوهراً مكنوناً يقوم على تهذيب النفوس وإصلاحها، وترسيخ البسمة على الوجوه، وبسط الإشراق والإقبال فى القلوب، وجعلت الصلاة صياحاً فى مكبرات الصوت، بينما أمر الله فى قرآنه أن تكون تضرعاً وخفية ودون الجهر من القول، وتم فتح أبواب جهنم بأمر من سدنة هؤلاء المستبدين وكهنتهم، يلقون فيها كل من خالفهم، وكل من يصدح بكلمة الحق، وكأنهم هم من يملكون مفاتحها ويأمرون ملائكتها.
وأصبح الغرب لا يرى صورة الإسلام والرسول إلا فى صخب وتشنج هؤلاء الوهابيين ومن تبعهم، وفى صورة ذلك السيف البتار المرفوع كطوطم يهدد ويتوعد، وتحولت صورة الإسلام السمح الوضىء إلى مفاهيم الكره والبغض والتكفير والتحفيز للوعيد والانتقام، فلا يرى منهم إلا أعداء الحياة وكارهى التقدم، وأصبح المستهدفون للرسول بالإهانة لا يقصدونه بقدر مايقصدون هؤلاء الذين يدّعون أنهم أتباعه وخلصاؤه، وهو منهم برىء، يقصدون منهم دعاة الغلظة فى القول والعمل، وأصحاب منهج الصوت المرتفع والعراك والصراخ والتشنج، والذين يدعون لتغييب العقول والعلوم المكتسبة لنتبع عقول عاشت من ألف سنة مازالت تفتى لنا فى أمور دنيانا.
لقد جمعت توابع تلك الفتنة التى أوقدوها كل عوامل ضعف الأمة وهزيمتها الحضارية، وقسمت المسلمين أنفسهم هذه المرة فى عقيدتهم، وجعلت بينهم العداوة والبغضاء، وكرست مفاهيم الإقصاء والمواجهة التى اتسعت دائرتها لتطول شعوب الغرب نفسه فبادلتهم العداء، وصبت جام غضبها عليهم، وأصبحت تسىء الحكم على الإسلام ورسوله بسبب تلك القلة المنحرفة أصحاب هذا الفكرالمتخلف التى نجحت فى أسر الإسلام وضرب صورة المسلمين.
إن منهج الإسلام الحق يأنف أن يكون هؤلاء من أتباعه، بل هم أتباع مفاهيم الغلظة والجاهلية العربية الأولى التى تجنح للسيف لا للعقل، وللجبر دون الاختيار، وللإقصاء عند الاختلاف، إنهم ليسوا أعداء الدين فقط بل هم أعداءٌ للحياة نفسها.. أوقفوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.. لا لهؤلاء.
أصبح الغرب لا يرى صورة الإسلام والرسول إلا فى صخب وتشنج هؤلاء الوهابيين ومن تبعهم، وفى صورة ذلك السيف البتار المرفوع كطوطم يهدد ويتوعد
منهج الإسلام الحق يأنف أن يكون هؤلاء من أتباعه، بل هم أتباع مفاهيم الغلظة والجاهلية العربية الأولى التى تجنح للسيف لا للعقل، وللجبر دون الاختيار
هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.