المصداقية وبناء أخلاقيات الشعوب
ثمة قول مأثور أن القدوة والنماذج تفعل ما لا يستطيع أن يقوم به الوعظ والإرشاد والتوجيه فمهما بلغ الموجه أو الداعية أو المعلم أو القائد فى اختيار وانتقاء الكلمات التى يوجهها لمن يخاطبهم بغرض التأثير فيهم، ومهما استخدم من أساليب مؤثرة فإنه لن يستطيع أن يحقق هدفه فى عملية التأثير والإقناع ما لم يكن هو نفسه نموذجاً لما يقوله، أى أن أعماله وأفعاله تكون مطابقة لما يقول أو أنه يمثل قدوة كما يصدر عنه من أقوال وكلمات، وفى الوقت نفسه تكون هذه القدوة نفسها متمثلة ومتحققة فى الأفعال التى يقوم بها أو يسلكها أو يتبناها فى حياته.
فثمة حقيقة مؤكدة أن الناس لا تستجيب للكلمات والأقوال المؤثرة ما لم تصطحب هذه الكلمات بأفعال مماثلة ومطابقة لمقتضى هذه الكلمات والأٌقوال، حتى لو كانت هذه الكلمات والأقوال مدعمة بالأسانيد والحجج الدينية المستمدة من العقيدة فإنها تصبح عند الناس إلى معنى ما لم يلحظ الناس المتلقون لهذه الكلمات والأقوال أن صاحبها يلتزم سلوكاً مطابقاً لما يقول وما يصدر عنه من كلمات وتصريحات.
وقد كانت عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكمن فى أن أعماله وأفعاله وسلوكه كان مطابقاً لما يصدر عنه من أقوال وكلمات، ومن ثم أطلق عليه مصطلح «الصادق الأمين» ولذلك فقد كان الدافع لدخول غير المسلمين فى الإسلام فى العصر الحديث قراءة هؤلاء للسيرة النبوية وما احتوت عليه من أقوال وأعمال كانت متطابقة ومتناسقة مع بعضها البعض، ولذلك كونت دافعاً حقيقياً وحافزاً لدخول غير المسلمين فى الإسلام حديثاً من المستشرقين وغيرهم ويخطئ من يظن أن كثرة الخطب والكلمات والأقوال والوعود وتكرارها عن طريق الإعلام المتنوع يمكن أن تؤدى ثمارها بالتأثير لدى الناس ما لم يصاحبها أفعال وسلوكيات مطابقة لما يصدر من كلمات وأقوال ووعود.
إن نظريات التنشئة الاجتماعية كلها تؤكد أهمية أن يكون السلوك والأعمال مطابقاً لما يصدر من تعليمات أو توجيهات أو كلمات نصح وإرشاد.
إن الوالدين «الأب والأم» أو من يقوم مقامهما فى عملية التنشئة إذا كانت توجيهاتهم ونصائحهم خالية من التطابق مع أعمالهم وأفعالهم وسلوكهم مع الأبناء فإنها تصبح عملية جوفاء ليس لها أهمية فى حياة الأبناء. إن الأطفال لن يتأثروا بكلمات آبائهم وتوجيهاتهم ما لم يكونوا هم أنفسهم قدوة لما يقولون ونموذجاً لما يصدر عنهم من توجيهات.
ولعلنى يحضرنى مثال الآن يحقق هذه الحقيقة العلمية، ومؤدى هذا المثال أن كلباً ضارياً واجه أبا وطفله فى الطريق العام وفى سبيل الهجوم عليهم، انتابت الطفل مشاعر الخوف والرعب من الموقف و ازدادت ضربات قلب الطفل خوفاً وارتعاداً وذعراً من منظر الكلب الضارى، وأراد والد الطفل أن يذهب عنه شبح الخوف والرعب وأن يهدئ من روعه ويطمئنه إزاء هذا الهجوم فأخذ الوالد يضع يده على كتف ابنه ويحتويه ويربت على ظهره ويؤكد له بالكلمات لا تخف، غير أن يد الأب نفسه كانت ترتعش أثناء ذلك وهو يحتضن طفله إلا أن الطفل فى هذه الحالة لن يهتم بالكلمات التى تصدر عن والده ولن يعيرها أى اهتمام، وإنما الذى سينطبع به وينقله ويتمثله هو اليد المرتعشة وخفقان قلب والده أمامه فيزداد خوفاً ورعباً ولن تبدى هذه الكلمات مهما كانت تحمل من أساليب الطمأنينة، لأن سلوك الأب يؤكد الخوف والارتعاش وهذا هو الذى سينطبع به الطفل دون الكلمات والأقوال ولذلك فيزداد خوفاً على خوفه ورعباً من الموقف كله. وهذا المثال يشير إلى أهمية السلوك الذى يجب أن يتطابق قولاً وفعلاً وتظل الكلمات والأقوال وحدها دون تطابق مع الأعمال والسلوك بمثابة النقش على الماء الذى لا جدوى منه ولا تأثير. ولعل فى حياة هذا المجتمع بعض الأمثلة للأشخاص الذين تطابقت مسالكهم مع أقوالهم فتحققت القدوة وظهرت المصداقية، ونذكر من هؤلاء الدكتور كمال الجنزورى الذى قاد حكومة انتقالية فى مصر فى الفترة السابقة والتى كانت من أحرج الفترات فى تاريخ الشعب المصرى، وكانت السمة البارزة فى قيادته تطابق كلماته وأقواله مع أعماله وسلوكه، وكان يمتنع عن الوعود التى يرى أنه لم يستطع الوفاء بها ومن ثم فإن مثل هذه الشخصيات سوف تبقى فى التاريخ مهما أخذ عليها من سلبيات أعاقت مسيرتها وتحقيق أهدافها. ومن جهة ثانية فإن ذاكرة الشعوب قوية وفعالة ولامحة أيضا فى آن واحد، فالشعوب لا تمر عليها الأحداث دون أن تقارن الأفعال بالأقوال وتكشف المطابقة وعدم المطابقة، ومن يتوقع غفلة الشعوب فإنه يكون واهماً ومخطئاً فى حساباته، لأن مقارنة الأقوال والكلمات والتصريحات للأفعال والسلوك يستشعرها البسطاء كما يقررها الفقهاء، ولا شيء أصبح يخفى على وعى الشعوب مهما كان مستوى الأمية والحرمان الثقافى , فالمقارنة بين الأقوال والأفعال أصبحت من البديهيات التى لا تخفى على وعى الشعوب، وإذا اختلت موازين المقارنة بين الأفعال والأقوال اختلت الثقة فى القيادة التى تقدم هذه الأقوال والعكس صحيح فإن الثقة تزداد كلما تحقق التطابق بين الأٌقوال والأفعال. إن أخلاقيات الشعوب تتشكل وفقاً لهذا الأداء وحسبما هو سائر، فإذا أراد قائد بناء أخلاقيات الشعب على أساس من المصداقية فلابد أن يستند إلى نفسه أولا كنموذج، لأن الناس تتأسى بالقدوة وتنسى أو تتناسى الأقوال والكلمات التى لا يصاحبها سلوك يطابق وينسجم معها.
ومن جهة أخرى فإن الانهيار الأخلاقى للشعوب سوف يكون مصدره فقدان القدوة والنماذج المثالية التى تتطابق أقوالها مع سلوكياتها و مع أفعالها.
■ العميد الأسبق لكلية التربية بجامعة الأزهر
هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.