رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأديب والقاص محمد خضر يكتب: تدربنا على العبور فى ترعة «الخطاطبة» المُجهزة بساتر ترابى

الأديب والقاص محمد
الأديب والقاص محمد خضر

أنا مساعد أول فنى محمد عبدربه محمد خضر، مواليد السيدة زينب عام ١٩٥١، تخرجت فى معهد الرادار والصواريخ فى مايو ١٩٧١ كفنى صواريخ «المالوتكا» المضادة للدبابات، ومنه تم توزيعى على الكتيبة «٣٣ فهد» التابعة للفرقة الثانية مشاة بالجيش الثانى الميدانى، أنا وزميلى الشهيد على أبوالمعاطى منصور.

وصلت إلى الإسماعيلية، وكانت المرة الأولى التى أرى فيها المدينة، وهى عبارة عن ثكنات خاوية من سكانها، وترى ثقوبًا على جدرانها التى تحولت إلى ما يشبه المصفاة، وهو ما نتج عن طلقات مدافع وطيران العدو، وكانت هذه الصدمة الأولى.

بينما الصدمة الثانية هى الكبرى عندما ذهبت فى مهمتى الأولى، وهى التفتيش على السرية المرابضة على شط القناة، وكان تفتيشًا فنيًا على المعدات الفنية، مثل صندوق التحكم والمنظار والبطارية، خاصة لدى حكمدار الطاقم، والصاروخ «المالوتكا»، مع اختبار صلاحيتها.

عندما صعدت فوق الساتر الترابى، ويا ليتنى ما نظرت، وجدت العلم الإسرائيلى يرفرف على الضفة الشرقية للقناة، وكانت تلك هى الصدمة الكبرى، فرت من عينى دمعة ساخنة من مرارة هذا اليوم، ووقتها تمنيت أن أرى هذا العلم يتمزق، ويرتفع بدلًا منه علم بلادى.

عدت إلى قيادة الكتيبة فى معسكر الجلاء، وكان عملى تجهيز كابينة التدريب للصاروخ، حتى يتم تدريب السرايا على إصابة الهدف، وكنت أحيانًا أؤدى مهمة المدرب، وكان التدريب يتم نهارًا ومساءً.

كنا نتدرب خارج الكتيبة على رماية الصواريخ الحية، فى الكيلو ٥٣ على طريق السويس، وعلى عبور القناة، فى ترعة «الخطاطبة»، التى كانت مُجهزة بساتر ترابى، وكان التدريب فيها يتم بالقوارب المطاطية.

لم نرتح، وكان التدريب مستمرًا، وكنا نحصل على الإجازة بواقع ٥ أيام كل ٢٥ يومًا، بينما المجند ٦ أيام كل ٣٦ يومًا، مع زيادة يوم إضافى لأبناء الوجه القبلى، من أول بنى سويف حتى أسوان.

وفى يوم السبت الموافق ٦ أكتوبر ١٩٧٣، كنا نعتقد أنه مشروع على مستوى القوات المسلحة، كنا فى رمضان، وجاءت الأوامر بالإفطار. تحركت الكتيبة فى الصباح الباكر، بعد توزيع السرايا على الـ٣ ألوية، إلى جانب السرية الاحتياطى وسرية إدارة النيران والحملة وفصيلة الورشة الفنية، تحت قيادة قائد الكتيبة الرائد جمال نصر، ورئيس العمليات النقيب الشهيد متولى دياب.

تحركنا فى الصباح الباكر كما تعودنا فى المشاريع السابقة، لكن فى هذا اليوم تغير طريق التحرك، فبدلًا من الذهاب إلى الكوبرى العلوى، انحرفنا يسارًا فى اتجاه القناة، فبدأت ملامح الجميع تتغير.

وجدنا الدبابات على جانبى الطريق، وأيضًا المدافع مقطورة بالعربات الذيل، وكان تمركزنا يمين كوبرى «الفردان»، وهى مشاهد تدل على شىء غامض، حتى جاءت الأوامر بأننا سنحارب اليوم، كان ذلك فى الحادية عشرة صباحًا.

دارت النظرات فى الأفق، وخرجت الهمسات بين الجنود، ومرت الساعات ببطء شديد، والكل على أهبة الاستعداد، بينما كانت مهمتى مع معداتى المُحملة على عربة قتال «جيب جاز ٩٦»، وكان كل العَجَل قد تغير وأصبح «بالون»، ولم نعبر إلا من خلال الكبارى بعد تجهيزها.

وعند الثانية إلا ٥ دقائق مرت من فوقنا الطائرات، واقتحمت كبد السماء، متجهة إلى الضفة الشرقية لدك حصون العدو، وبعدها المدافع الثقيلة من الخلف، التى اخترق صوتها أذاننا، مع صيحات «الله أكبر» وقتها.

صعدت فوق الساتر الترابى، ورأيت الملحمة الأسطورية العظيمة، وهى عبور رجال المشاة بالقوارب المطاطية والخشبية إلى الضفة الشرقية، ثم صعود الساتر الترابى.. كانت هذه الموجة الأولى.

بعدها توالى عبور القوات كلها على موجات، وعكف رجال المهندسين على فتح السواتر بخراطيم المياه، ثم تجهيز الكبارى، وكان معبرنا رقم ٢٦، وعبرت بمعداتى فى العاشرة ليلًا، وأخذت موقعى مع سرية الرئاسة، وجهزت مع زملائى الخندق وخلفه المركبة، التى غطيناها بشبكة التمويه.

كانت مهمتى، بعد تمركز القوات كلها على خط المواجهة الأول، هى توزيع بطاريات صندوق التحكم على الأطقم، ثم أخذ البطاريات الفارغة إلى معسكر الجلاء لشحنها، إذ لا بد من شحنها بجهاز خاص يعمل بالكهرباء.

كان توزيعى البطاريات يتم تحت قصف المدافع والطيران، وكنت أرى بعينى ميدان المعركة، وأنا لا أعلم من أين يأتى الموت، كنت أرى هذا الموت بعينى ذهابًا وعودة، ولا أعلم موعده، ربما الآن أو بعد ساعات أو غدًا.

كانت مهمتى بالتحديد هى حمل البطاريات الفارغة، والعبور من معبر نمرة ٦ إلى معسكر الجلاء، حيث أُسلم البطاريات الفارغة وأتسلم المشحونة، وكما قلت، كل ذلك كان يتم تحت قصف العدو الإسرائيلى.

البطولات التى شاهدتها فى المواقع الأمامية كثيرة، بداية من الرقيب البطل محمد شيحة، الذى دمر ٨ دبابات للعدو وعربة مجنزرة، قبل أن يُستشهد صباح اليوم الثالث للمعركة، وهو من قرية جوار كفرالشيخ، وكان هادئ الطباع، ومتزوجًا وله بنتان.

قبل المعركة، كان البطل «شيحة» يحكى معى عن أحواله، وكيف استطاع أن يتزوج من بنت خالته، وبعد أن تسلم وظيفته فى القرية، تم استدعاؤه للالتحاق بصفوف القوات المسلحة، وأصبح ضمن رماة الصواريخ فى الكتيبة، مع امتلاكه قدرة هائلة ومتميزة على إصابة الهدف، سواء داخل عربة التدريب، أو فى الرماية الحية التى كنا ننفذها فى الكيلو ٥٣ على طريق السويس، قبل أن يستشهد فى المعركة، تاركًا ابنتيه الصغيرتين مع أمهما، فى تضحية غالية من أجل تحرير أرضنا التى سُلبت منا فى ٦٧.

كان لى عمر حتى نهاية الحرب، وبعد ٣٠ عامًا كان أول لقاء أدبى، من خلال مقالة صغيرة فى مجلة «صباح الخير»، عن قصة الشهيد على أبوالمعاطى منصور، ثم توالت القصص فى كتب أصدرتها تابعة للدولة، وهى «الغدر فوق صوت الهديل» و«عبير» و«فرط الرمان» و«هكذا يغنى كوبرى الفردان» و«يوميات مقاتل».

كما حصلت على جائزة من الشئون المعنوية للقوات المسلحة، فى مسابقة مجلة «النصر»، عن قصة «خيال المآتة»، وجائزة «أخبار اليوم»، عن قصة «المعدية نمرة ستة»، وجائزة نادى القصة، عن قصة «كش ملك»، وهيئة قصور الثقافة، عن قصة «الغدر فوق صوت الهديل».

وأنا الآن عضو عامل فى نقابة اتحاد كتاب مصر، ولى العديد من البرامج التليفزيونية والإذاعية، وحصلت على تكريم الدولة، من قبل وزارة الثقافة بالتحديد، فى عهد الوزيرة السابقة، الدكتورة نيفين الكيلانى.