رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاتب والسيناريست محمد السيد عيد يكتب: «حفرة برميلية» أنقذتنى من القنبلة.. وحديث «اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم» صبرنى على «البسكويت بالكمون»

الكاتب والسيناريست
الكاتب والسيناريست محمد السيد

بدأت قصة تجنيدى بورقة تركها شرطى، تطالبنى بالتوجه إلى مكتب التجنيد والتعبئة الموجود فى قسم الشرطة، فتوجهت إلى هناك دون تلكؤ، فقد كنت، مثل غيرى من الشباب، أشعر بالعار بعد هزيمة ٦٧. كنا نثق فى جمال عبدالناصر والجيش ثقة بلا حدود، لذا حين وقعت «النكسة» فقدنا توازننا، وأصبحنا نرحب بالتجنيد لمحو العار الذى نشعر به.

كان يوم الترحيل شاقًا، حملنا القطار الحربى من الإسكندرية إلى القاهرة، كان قطارًا بطيئًا جدًا، ليست فيه أى خدمات، حتى وصلنا إلى محطة القاهرة بعد ساعات طوال. حاولنا أن نخرج إلى ميدان رمسيس لشراء طعام، لكن الشرطة العسكرية منعتنا.

انتظرنا حتى جاء المندوبون بسيارات النقل المكشوفة لنقلنا إلى معسكرات التدريب فى المعادى. وصلنا إلى المعسكر منهكين، لكن كانت ثمة إجراءات لا بد أن تتم. بعد تمام الإجراءات وزعونا على سرايا التدريب، وكان الليل قد فرض نفسه تمامًا على المكان.

سألنا عن الطعام. قالوا لنا: المطبخ أُغلق، والعشاء مضى وقته من زمن. بعض الجنود ذهبوا إلى المطبخ للبحث عن أى شىء. قدم لهم جنود المطبخ ما تيسر من البقايا الموجودة فى الأوعية التى يطبخون فيها، وكسرات خبز. أكلوها بنهم، لكنها ما كانت تكفى أكثر من أفراد معدودين.

سألت عن «الكانتين»، ذهبت إليه مع بعض الزملاء، لم يكن به سوى حلاوة طحينية وسلمون، طلبت حلاوة طحينية ورغيفين، قال: «لا يوجد خبز»، قلت له: «كيف أتناول الغموس دون خبز؟»، طلب منى أن أنتظر لحظة، عاد ومعه كسرات خبز تعافها النفس، شَكرته وقررت أن أنام دون عشاء.

كانت صورة الجيش فى ذهنى قبل التجنيد لا تختلف كثيرًا عن المعسكرات الشبابية، التى طالما اشتركنا فيها فى أثناء فترة الجامعة. أذكر أننا نزلنا مرة، فى أثناء فترة الدراسة، فى معسكر بحلوان، فوجدنا المعسكر عبارة عن مجموعة من العنابر، كل عنبر يمتد على جانبيه صفان من السراير ذات الدورين، نخرج من العنبر صباحًا للاستمتاع برحلتنا، ثم نعود إليه فى المساء، فنتناول عشاءنا ويرتدى كل منا بيجامته وينام فوق أحد الأسرّة، وربما أقمنا أيضًا حفل سمر قبل النوم.

قبيل الترحيل حرصت على أن تكون معى بيجامة لأنام فيها، وضعت البيجامة فى «المخلاة» مع باقى الأمتعة، وتوكلت على الله، وحين وصلنا المعسكر كان الظلام يغمر المكان، نظرت حولى فى الظلام فلم أرَ غير الصحراء وأشكالًا تبدو كالأشباح لخيام. أين العنابر؟ لا توجد. وزعونا على الخيام، كل مجموعة فى خيمة، الخيمة خالية من أى شىء، أرض صفراء ليس فيها إلا الهواء، سألنا: كيف سننام؟ قالوا: «كل واحد منكم معاه مشمع، يفرشه وينام عليه».

أول ما فكرت فيه هو البيجامة، أخرجتها من المخلاة، ولا أدرى كيف رآنى «الأومباشى» فى هذا الظلام الدامس فصاح فى ناهرًا: «إيه ده يا عسكرى؟ بيجامة ملكى؟ شيل البيجامة دى».

- وكيف سأنام؟

- بـ«الأفرول» يا شاطر، إنت فاكر نفسك فى رحلة؟

أعدت البيجامة إلى موضعها، وأخرجت المشمع فرشته لأنام عليه. لكن بقيت المخدة، فليست لدينا مخدات. جعل كل واحد منا مخلاته مخدته. المشكلة أن المخدة كان بها حذاء ميرى، وقروانة ألمونيوم، وأدوات الطعام، وكلها أشياء صلبة، ورغم هذا حولناها إلى مخدات، فـ«الجيش بيقول لك اتصرف»، وقد تصرفنا.

أحضروا لنا سراير بعد ذلك، لكن الليلة الأولى بقيت محفورة فى ذهنى حتى الآن.

فى هذا الوقت كانت «حرب الاستنزاف» فى ذروتها، تميزت إسرائيل آنذاك بميزة نسبية تتمثل فى الطيران المنخفض، فلم تكن لدينا فى هذا الوقت أسلحة قادرة على التعامل مع هذا النوع من الطيران، فاستغلت إسرائيل الفرصة، وحاولت تدمير معنوياتنا بشن الهجمات المتوالية على مواقع مدنية وعسكرية فى العمق.

صار النداء «غارة» هو النداء المتكرر الذى نسمعه يوميًا، فنترك الطابور ونجرى فورًا على الخنادق. قال لنا قائد مركز التدريب: «كل واحد يحفر لنفسه حفرة برميلية. فى الحفرة البرميلية لن تموت إلا إذا جاءت القنبلة مكتوبًا عليها اسمك».

أحضروا لنا ما تيسر من الكواريك (جمع كوريك) لنحفر بها، لم تكن كافية. طلبنا المزيد، قالوا لنا: «احفروا بالقروانات، أو حتى بالملاعق. تصرفوا». حفرنا بـ«القروانات» إلى جانب «الكواريك»، تبادلنا «الكواريك»، وصار لكل منا حفرة دائرية كالبرميل، يمكنه أن يقف فيها بطوله.. لا يوجد فى الجيش مستحيل. بعد انتهاء التدريب تم توزيع كل الزملاء على جبهات القتال. بقيت أنا واثنان من الزملاء دون توزيع، السبب؟ قالوا: «أنتم فقرة ب»، وهذا معناه أننا أقل لياقة، لذلك فلن يتم إرسالنا إلى الجبهة. وبالفعل كنا نحن الثلاثة نلبس نظارات، ونعانى ضعف النظر. 

بقينا فى انتظار توزيعنا على أماكن مناسبة. دون الدخول فى التفاصيل تم توزيعى على سلاح الوقود، وتحديدًا «فرد توجيه معنوى»، وأرسلنى سلاح الوقود للحصول على فرقة متخصصة. بالصدفة كانت هذه هى الفرقة الأولى لتخريج ضباط توجيه معنوى متخصصين فى القوات المسلحة.

لم تكن الصورة واضحة عند انضمامنا إلى الفرقة، وهل سنبقى جنودًا أم سنرقى لضباط احتياط، أم سنكون دون رتب مثل الوعاظ؟ وأخيرًا استقروا على أن يتم تحويل المؤهلات العليا إلى ضباط احتياط، لكن وقفت «فقرة ب» فى طريق ترقيتى إلى رتبة ملازم أول متخصص فى التوجيه المعنوى، واكتفوا بمنحى ٣ أشرطة، فصرت رقيبًا مجندًا، واستمرت هذه الرتبة معى حتى نهاية التجنيد.

وزعونا للتدريب العملى على الوحدات. جاء نصيبى مع وحدة دبابات، فى مشروع تدريبى على عبور القناة. كان التدريب يتم فى أحد الرياحات التى تشبه القناة. نسيت التدريب وتركز اهتمامى على مشاهدة عبور القناة. كانت ملحمة.

شاهدت البرمائيات لأول مرة فى حياتى، ورأيت الدبابات العادية تعبر فوق المعديات والكبارى. ملأنى الأمل. وساعدنى هذا على احتمال قسوة التدريب، خاصة أنهم وزعوا علينا تعيين قتال، ولم يكن هناك طعام ساخن ولا خبز، بل بسكويت بالكمون، وبعض المعلبات. لم تكن لدينا مياه كافية أيضًا ولا حمامات. تذكرت الحديث النبوى «اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم»، وأكملت تجربة العبور بنجاح.

هذه الحكايات الصغيرة، التى لا تخلو من فكاهة أحيانًا، تمثل واقعًا عاشه الجنود الذين تم تجنيدهم قبل حرب أكتوبر، ثم خاضوا الحرب وهم يحلمون بالتحرير، ويصنعون من الحلم حقيقة بدمائهم قبل أيديهم.