رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأديب محمود عرفات يكتب: أهالى سرابيوم تحدوا الطائرات لتقديم العيش والجبنة والخضار للجنود

الأديب محمود عرفات
الأديب محمود عرفات

حصلت على بكالوريوس إدارة الأعمال من كلية التجارة جامعة القاهرة، فى يوليو ١٩٦٩، وجُندت بعد شهرين فقط من التخرج، لأتنقل بين مدارس ووحدات الجيش المختلفة، حتى عُينت مساعدًا لقائد اللواء الرابع عشر المدرع للتوجيه المعنوى.

كان قائدى المباشر العقيد الركن «اللواء لاحقًا» عثمان كامل، وخُصص اللواء لدعم الفرقة السادسة عشرة مشاة، بقيادة العميد الركن «الفريق لاحقًا» عبدرب النبى حافظ، التى احتلت المنطقة الواقعة شرق القناة من جنوب الإسماعيلية إلى شمال البحيرات المرة.

عبرت مع وحدات اللواء فى السابع من أكتوبر، بعد تجهيز المعابر لعبور الدبابات. العبور هو اللحظة المحورية فى حياتى، وفيه اختلطت مشاعر الفخر والبهجة مع عدم التصديق والخلاص من العار، فهتفنا دون ترتيب: «الله أكبر»، وعندما لمست قدماى أرض سيناء الحبيبة أدركت أننا نفضنا كابوس الهزيمة التى أوجعتنا فى ٦٧.

ذكرياتى عن الحرب متناثرة فى قصصى ورواياتى، التى توجتها برواية «سرابيوم»، وفيها رصدت الصحوة التى تلت هزيمة ٦٧، وإعادة بناء الجيش المصرى على أسس العلم والمنهج العلمى، واحترام آدمية الجندى، وإعادة بناء عقيدته القتالية، وتدريبه بأفضل برامج ووسائل التدريب.

تركزت مهمتى فى صيانة الروح المعنوية للمقاتلين، بالترفيه عنهم داخل الوحدة، وحل مشكلاتهم الحياتية والعملية خارج الوحدة، مع التركيز على الجانب الروحى والنفسى لهم، بمشاركتهم فى الاحتفالات الدينية والاجتماعية، وفى المناسبات الشخصية، كما كنا نعرض لهم أفلامًا سينمائية بانتظام. وقبل ظهر السادس من أكتوبر، نفذت الخطة المعدة سلفًا، وتضمنت إذاعة نداء قائد اللواء للمقاتلين، بالإضافة إلى مواد إذاعية متنوعة مثل القرآن والأناشيد الوطنية.

قبل اشتعال الحرب بـ٥ أيام، لمحت رئيس عمليات اللواء، وبرفقته ٣ من الضباط، يستعدون لركوب سيارة «جيب»، فطلبت أن أرافقهم. تردد الرجل لحظة قبل أن يشير بيده موافقًا وقال: «هذا ليس سرًا عليك».

توجهنا إلى «سرابيوم»، حيث استطلعنا بالعين المجردة، من أعلى نقطة فوق المصطبة العملاقة، المنطقة التى سنحتلها شرق القناة، وعاينا المدق الترابى المجاور المعد كقاعدة لكوبرى العبور. حينها تأكدت أن القرار تم اتخاذه، وأن عجلة الحرب دارت، وانشغلت بمتى يكون الموعد.

تحركنا فى مساء السادس من أكتوبر، وتوقفنا على بعد كيلومترات من القناة، منتظرين إعداد الكبارى للعبور. كانت ليلة صعبة، رأينا أشجار النيران تضىء السماء، وسمعنا انفجارات متصلة ومخيفة. فى الصباح اقتربنا من المدق الذى استطلعناه، فرأيت المشهد المحفور فى قلبى إلى الآن.

الطائرات المعادية تنقض كل عدة دقائق لتقصف كل ما هو متحرك، وأهالى «سرابيوم» يصطفون على جانبى المدق يهتفون ويصفقون ويحملون مشنات العيش والجبن والخضروات يقدمونها إلى الجنود. تعجبت ممن لا يحملون سلاحًا ويشتعلون حماسًا، ولا يشغلهم خطر القذائف. أدركت أن أهلنا العُزَّل لا يقلون شجاعة عن الجنود، الذين يستدفئون بما معهم من سلاح.

فى صباح التاسع من أكتوبر كان علم مصر يرفرف عاليًا على سيارة الإعلام التى أديرها، وكانت خلف مركز قيادة الفرقة مباشرة، فاستدعانى قائد الفرقة وأمرنى أن أخفض العلم حتى لا يدل على قيادة الفرقة، فنفذت الأمر فى الحال، ثم أمرنى أن أستعد للتوجه إلى النقطة الحصينة فى «الدفرسوار»، برفقة ضابط استطلاع يجيد العبرية، لينذر جنودها بالاستسلام، مستخدمًا مكبرات الصوت. ظللت فى وضع الاستعداد حتى أُلغيت المهمة، بعد سقوط النقطة الحصينة بالفعل.

فى صباح نفس اليوم رأيت بالقرب من موقعى خط مياه عذبة يرتفع عاليًا شرق القناة، وينتهى بخرطوم، وسيارات صهاريج المياه تقف بنظام لتزويد الوحدات المقاتلة بماء الشرب. شعرت بالإكبار للمخططين والمنفذين لهذا الخط. أيقنت أن البطولة ليست للجنود المقاتلين وحدهم، بل تتجسد فى الجنود المجهولين، من يمدون خطوط المياه العذبة، ويقودون سيارات الذخيرة من مخازنها إلى خط القتال، ورجال المهندسين الذين يزرعون الألغام ويزيلونها، وهؤلاء الذين يضعون علامات الإرشاد لتتقدم الوحدات فى الاتجاه الصحيح، ورجال ورش صيانة المدافع والأسلحة المختلفة، ورجال الشئون الإدارية وهم يؤمنون وصول الغذاء والمياه إلى المقاتلين، ويسجلون بيانات الشهداء والجرحى والمفقودين.

كلفنى قائد اللواء بالتوجه إلى موقع كتيبة الدبابات التى شاركت فى صد الهجوم المضاد على الخط الأمامى، فقابلت قائد الكتيبة، المقدم أحمد حسن عمار، وسألته عما حدث، فحكى لى تفاصيل المعركة، وظهر عليه التأثر عندما ذكر الشهداء، ثم دعانى للقاء أفراد الكتيبة الذين جلسوا فى شكل نصف دائرة، فحدثتهم عن منزلة الشهداء وترحمنا عليهم، ثم طلبت مهم أن يتكلموا عن بطولاتهم وبطولات زملائهم.

تحدث قائد الكتيبة قائلًا إن هذه أول معركة مع العدو، وأدت إلى تراجعه، وفشل هجومه المضاد، وستتبعها معارك كثيرة يجب أن نكون جاهزين لها، مشددًا على أننا أثبتنا اليوم أننا قادرون على هزيمته بإذن الله. 

بعد ٣ أيام، أمرنى قائد اللواء بزيارة كتيبة مدفعية اللواء التى تعرضت لقصف جوى ومدفعى شديد، قرب الخطوط الأمامية، فركبت إحدى سيارات نقل الذخيرة، ووصلت الكتيبة قبل المغرب بقليل. قابلت رئيس عمليات الكتيبة الذى رأيته جالسًا على الأرض يراجع حسابات الضربات المخططة على «لوحة البلانشيطة» المثبتة على حامل خشبى.

رآنى الرائد فتحى فوقف مرحبًا وأبدى ارتياحه، وأخذ يفضفض: العدو يضربنا بالطيران وبالمدفعية من أول ضوء، والجنود فى المخابئ لا يستطيعون الظهور، ومعنوياتهم فى الحضيض. قلت له: الضرب توقف الآن، فأرجو أن تجمع لى أفراد الكتيبة. تجمع الرجال حولنا واجمين. قلت لهم: ما لكم يا أبطال؟ قالوا: انهزمنا. واصلت: تعرضتم لضرب الطيران والمدفعية طول النهار، ما هى خسارتكم من الشهداء؟ ردوا قائلين: شهيد واحد خرج من خندقه دون حذر فأصابته شظية فى صدره. قلت: خسرتم شهيدًا واحدًا رغم كل هذا القصف.. أخبرونى.. أين أنتم يا أبطال؟ فردوا: داخل سيناء. سألت: على بعد كم من القناة؟. قالوا على بعد حوالى عشرة كيلومترات شرق القناة. التزمت الصمت لعدة ثوانٍ متعمدًا، ثم قلت لهم بقوة: معنى كلامكم أنكم عبرتم القناة دون خسائر ودمرتم مواقع العدو أثناء تقدمكم، واستوليتم على عشرة كيلومترات شرق القناة.. من المهزوم ومن المنتصر يا أبطال؟ نظرت فرأيت الأبطال يهزون رءوسهم كأنهم أفاقوا من غفوة، وأخذوا يتحركون فى زهو ونشاط، وسرى حديث باسم بينهم، ولمحت قائدهم يتنهد ارتياحًا. عادت السيارة بعد تسليم الذخيرة، فاستأذنت القائد فى المغادرة، فالتف رجاله حولى يثرثرون فى ود، ورأيت على وجوههم علامات الراحة والثقة.

فى الأيام التى سبقت حدوث «الثغرة» تعرضنا إلى قصف مساحى جعل كل بوصة معرضة للإصابة. كنا نحتمى بتبة صغيرة، وسقطت قذيفة على سيارة ذخيرة، فتحولت الذخيرة إلى قنابل. اقترب منى مساعد، وطلب منى سيجارة، فقد كنت أتسلم ترفيه السجائر لأوزعه، وأنا لم أدخن أبدًا. قلت له: السيارة أمامك، خذ ما تشاء. قفز الرجل إلى السيارة وعاد بعلبة سجائر، وأنا لا أصدق أنه نجا. وجلس يدخن مستمتعًا.

بعد انتهاء الحرب عدنا إلى القصاصين لنحيط بـ«الثغرة» تمهيدًا لتصفيتها. رأيت أحد المساعدين يقترب منى ويؤدى التحية. أدرك أننى لا أذكره. فذكرنى بأنه الرجل الذى جازف بالقفز فى الجحيم من أجل سيجارة واحدة. وقال مبتسمًا: كانت أحلى سيجارة شربتها فى حياتى... وتبقى فى قلبى وفى ذاكرتى مئات الحكايات عن النار والنور.