رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاتب الروائي السيد نجم يكتب: مجند مكسور رفض تركيب الجبيرة ومشى 10 كم حتى لا يترك زملاءه

الكاتب الروائي السيد
الكاتب الروائي السيد نجم

جُندت فى يناير من عام ١٩٧١، وخلال هذه الفترة كان زملائى فى الكلية هم دفعتى فى التجنيد، كل من كان يتخرج فى الكلية يذهب مباشرة إلى التجنيد، ولا يعرف متى يخرج بالضبط.

المهم أننا ذهبنا إلى مركز تدريب الخدمات الطبية، والذى يضم الأطباء البيطريين والصيادلة وأطباء الأسنان، ورحنا ندرس مقررات عسكرية، علمونا كيف نمشى ونتفادى الضرب ونتحرك، وبعد أن أتممنا الدورات التدريبية على الحرب، رقونا كلنا إلى رقباء، بعد أن حصلنا على فرقة «الرقيب».

أحكى هذا لما حدث بعد ٣ أشهر، فقد خرجونا بالدرجة الجديدة، فقررنا كلنا أن ننظم احتفالًا على الجبهة، وبالفعل لملمنا القروش الصغيرة التى كانت معنا، واشترينا بسكويت «بسكو مصر»، وشايًا، وزجاجات مياه غازية، وعزمنا قائد وضباط المركز، وغنينا أغانى وطنية لفرقة «ولاد الأرض» بقيادة الكابتن غزالى، ورغمًا عنّا أثناء الغناء بكينا، كلنا بكينا.

فى ختام الحفل وقف قائد المركز، وقال وهو يبكى: «هذه أول مرة يكون هناك احتفال بمناسبة تخرج دفعة من الفرق، لا بد أن أقول إن المؤهلات العليا عندما دخلت التجنيد، غيرت من خصائص العسكرية».

وأضاف قائد المركز: «أنا شخصيًا شاركت فى حرب ٦٧، ولم أعمل طبيبًا آنذاك، بل عملت حانوتيًا»، متابعًا: «عليكم الدور فى إكمال المسيرة، نحن لم نحارب فى ٦٧، لكننا سنحارب قريبًا».

كانت هذه أول لفتة عيشتنا الأجواء، وضعنا بكاءه فى هذا الموقف نصب أعيننا لتحرير الأرض، وكان ما حدث دافعًا قويًا لنا بعد ذلك، قبل توزيعى على الجبهة، وتحديدًا فى وحدة المستشفى الجراحى رقم «٥» تحت الأرض.

هذه الوحدة كانت عبارة عن ٦ دُشم بين تبتين جبليتين، والدُشمة صبة خرسانية كبيرة لا تؤثر فيها المدفعية الثقيلة. كانت الغرفة عبارة عن عنبرين، وهناك غرفة لتغيير الجراحات، وكنا ٥ رقباء، بواقع ٣ صيادلة وطبيب أسنان، وأنا طبيب بيطرى، مسئولية كل منا كانت التمريض فى الحرب، حيث يأتى إلينا الجرحى فنفرزهم، من يحتاج جراحة عاجلة نرسله إلى دُشمة الجراحة، ومن يحتاج غيارًا نفعل له ذلك.

كنا نرسل البعض إلى مستشفى الأمراض النفسية، أو مستشفى العظام فى الحلمية، حسب الحالة، واستمررنا على ذلك فى الأيام الأولى للحرب، واللافت أننا ظللنا ٤٨ ساعة لا نصدق أن الحرب قد قامت، لأن الإصابات التى كانت تأتينا لا توحى بأنها إصابات حرب.

مثلًا كان يأتى أحدهم وقد وقع صندوق الذخيرة على قدمه، وآخر التوت قدمه تحته، وهكذا، لم تكن إصابات حرب، كان الله قد أكرمنا فى الفترة الأولى، ونجح العبور بالفعل، ولم يكن اليهود قد انتبهوا بعد للرد على الهجوم، وفى اليوم الثالث بدأت الإصابات الحقيقية، نتيجة معارك الدبابات، كانت أكبر معارك دبابات فى التاريخ، من اليوم الثالث إلى الخامس، يومها استقبلنا إصابات ثقيلة.

هناك شواهد إنسانية لا أنساها، مثلًا كان يأتى اثنان مصابان من وحدة واحدة، ومعى عسكرى يعطى حقن «بنسلين مائى» و«مضاد للتيتانوس»، كنت أقول للعسكرى المعاون أعطى كل منهما حقنتين، فنجد كل منهما يطلب أن نعطى الحقن لزميله، كان هناك إيثار عظيم، بتلقائية دون أى اصطناع.

حالة ثانية رأيتها، جاء مصاب يعرج بقوة، وقلت له سنركب جبيرة إلى أن تأتى سيارة لنقله إلى مستشفى الحلمية، لكنه رفض رفضًا قاطعًا، وقالى لى: «لن أترك زملائى وأذهب للبقاء فى مستشفى»، مشيرًا إلى أنهم على عمق ١٠ كم فى القنال، وأنه سيعود إليهم مرة أخرى، رافضًا تمامًا تركيب جبيرة.

تركته وذهبت إلى العنبر الآخر، وقلت للممرض أن يركب له جبيرة بشاش وعصايتين حتى تأتى السيارة لنقله إلى المستشفى، لأفاجأ بهذا الممرض يأتينى ويقول لى إن المريض ترك العنبر، فنظرت ووجدت الجندى المصاب خرج على الطريق الأسفلتى، يمشى فى اتجاه السويس العديد من الكيلومترات للحاق بزملائه.. كان موقفًا غريبًا، ولم أتمكن من إرجاعه وإقناعه بذلك، لأنه لا يرغب فى ترك زملائه على الجبهة.

هناك مصاب آخر كان قد وضع لفة حول بطنه، فقلت له دعنى أرى، لكنه لم ينطق، حالته كانت سيئة جدًا، كان يمسك ببطنه بشكل غريب، المهم أننى طبطبت عليه وطمأنته، وحين فرد يديه ونظرت وجدت فيهما جزءًا من علم إسرائيلى، بعدما عبر هو وزملاؤه وأسقطوا العلم ومزقوه، وحصل كل منهم على قطعة منه، رفض إعطاءنا نصيبه من العلم، وقال: «هو هدية لزوجتى».

تجارب كثيرة وبُعد إنسانى عال، مع وطنية وإخلاص لم أرهما فى حياتى، ظللنا هكذا حتى حدوث «الثغرة»، كانت بعد ١٥ يومًا من اندلاع الحرب، لكننا سمعنا بها يوم ٢٣ أكتوبر، وقبلها بـ٥ أيام كان اليهود قد أقاموا نقطة فض اشتباك، والخيام التى تفاوض فيها الجمسى «المشير محمد عبد الغنى الجمسى» على وقف إطلاق النار، كانت أمامنا تمامًا.

ظل اليهود لمدة ٥ أيام يضربون أى سيارة إسعاف أو مياه أو غذاء. حصار كبير، وعلينا أن نتصرف، لأن هناك ٤٠ مصابًا فى المستشفى، ولا بد من حل مع هؤلاء المصابين، وبقدر ما استطعنا قدمنا خدماتنا الطبية، لكن لم يعد هناك طعام ومياه، وتواصل قائد المستشفى مع القيادة، وأخبرهم بأننا محاصرون، فطلبوا منا الانسحاب والمحافظة على المصابين، ونقلنا الـ٤٠ مصابًا بسيارة «زد» واحدة.

وقتها الليل قد حل وأظلمت الدنيا تمامًا، فقال لنا القائد من يحب المشى عن طريق جبل عتاقة فليمش، ومن يريد أن ينتظر السيارة المقبلة فلينتظر، مشيرًا إلى أن هذه السيارة ستذهب إلى السويس، فقلت أنا ومجموعة معى إننا سنظل إلى الفجر.

جلسنا، ولم تكن هناك إضاءة أو قمر، وعلى الساعة التاسعة نادى القائد باسمى، وأخبرنى بأنه يريدنى لكى ندفن الشهداء، وكان معنا طبيب أسنان اسمه «بطرس»، وآخر اسمه «نبيل»، إلى جانب عسكرى اسمه «أحمد»، فبدأنا جميعًا فى نقل ٨ شهداء ودفنهم فى الحفر البرميلية. كنا نضع الشهيد فى الحفرة، ويقول زميلانا المسيحيان: «أبانا الذى فى السماوات»، بينما أنا و«أحمد» نقرأ الفاتحة، كنا نفعل ذلك مع بعضنا البعض، دون أن نعرف الشهيد الذى ندفنه مسيحيًا أو مسلمًا.

دفنا الشهداء وانتهينا من المأمورية، ولم نعرف النوم حتى الفجر، ثم تحركنا فى اتجاه القاهرة مع أول ضوء، ووصلنا إليها وبتنا فيها ليلة واحدة، ثم تحركت بنا السيارات فى اليوم التالى، والتحقنا بالمستشفى الجراحى التاسع تحت الأرض، وهو أول مستشفى بعد «الثغرة»، وأى مُصاب من «الثغرة» كان يأتى إلينا لعلاجه مباشرة.