سرجيوس خطيب ثورة 19 «3-3»
نحتفى هذه الأيام بالذكرى الستين لوفاة القمص سرجيوس خطيب ثورة ١٩؛ حيث استعرضنا فى المقالين السابقين المشاركة الوطنية لسرجيوس فى أحداث الثورة، وصعوده على منبر الأزهر خطيبًا للوطنية. واليوم نواصل تتبع مسيرة سرجيوس مع الثورة، ثم تحوله بعد ذلك إلى رمز للوطنية المصرية.
استمر القمص سرجيوس فى نشاطه الثورى إلى أن أصدرت السلطات البريطانية أوامرها باعتقاله فى أبريل ١٩١٩، وفى البداية تم إلقاء القبض عليه فى منزله بواسطة البوليس، حيث اُقتيد إلى قسم الأزبكية، ووفقًا لروايته انتقل إلى «المحافظة»، ومن هناك إلى ثكنات الجيش الإنجليزى فى قصر النيل، حيث بات فيها ليلة واحدة، وفى اليوم التالى قُدم سرجيوس للتحقيق أمام ضابط إنجليزى كبير، حيث صدر بعد ذلك الأمر بنفى سرجيوس إلى رفح.
وأحدث نبأ اعتقال ونفى سرجيوس العديد من ردود الأفعال، لعل أهمها امتعاض الكنيسة القبطية من إلقاء القبض على أحد رجالها، حيث أرسلت الكنيسة رسالة إلى السلطان أحمد فؤاد، احتجاجًا على اعتقال ونفى السلطات البريطانية القمص سرجيوس. واستندت الكنيسة فى احتجاجها إلى أن الاعتقال جاء على غير المألوف فى معاملة رجال الدين، ففى مثل هذه الأحوال يجب إخبار الكنيسة أولًا عن الأسباب التى تدعو إلى هذا الاعتقال «حسب القوانين المرعية والامتيازات الخاصة برجال الدين»، كما أشارت الكنيسة إلى أنها السلطة الوحيدة التى يحق لها مساءلة رجال الدين، واعترضت الكنيسة على تطبيق الأحكام العرفية- التى كانت سائدة آنذاك- على رجال الدين، كما طلبت من السلطان أحمد فؤاد التدخل لدى السلطات البريطانية للإفراج عن القمص سرجيوس، وتسليمه للكنيسة لتنظر فى أمره، إذا كان حقًا قد أخطأ.
وأرسل سرجيوس نفسه من منفاه فى رفح رسالة احتجاج على اعتقاله إلى الجنرال اللنبى المندوب السامى البريطانى فى مصر، حيث رأى سرجيوس أن ما قامت به السلطات البريطانية من اعتقاله مخالف للتقاليد المتعارف عليها، حيث نصت الفرمانات العثمانية على أن القسيس الذى يقترف ما يستوجب السجن، يُسجن بالدار البطريركية. وسخر سرجيوس بأسلوبه المعتاد من الموقف البريطانى قائلًا: «إذا كان هذا منحة الأتراك للأقباط، فهل تعتقل دولة الإنجليز رجال الدين المسيحيين، وهى التى تتباهى بالمحافظة على التقاليد وعدم التعرض للأديان!».
وشرح سرجيوس فى رسالته المعاملة السيئة التى لاقاها، سواء فى ثكنات قصر النيل أو فى معتقل رفح. ولإيمان سرجيوس بدور رجل الدين فى الحركة الوطنية، أشار سرجيوس إلى أن ما قام به فى الثورة لا يختلف عما فعله قُسس الكنيسة الإنجليزية حينما لازموا خطوط القتال لإثارة الحماسة فى نفوس الجنود طيلة سنوات الحرب.
لكن كل هذه المحاولات، سواء من جانب الكنيسة القبطية، أو من جانب سرجيوس، لم تفلح فى دفع السلطات البريطانية إلى الإفراج عن سرجيوس، واستمر منفيًا فى رفح لمدة تقارب الثمانين يومًا، حيث كان يرافقه هناك العديد من زعماء الحركة الوطنية، سواء من الساسة مثل النقراشى، أو العلماء مثل الشيخ مصطفى القاياتى.
لا يمكن تلخيص حياة سرجيوس العامة منذ صعوده إلى منبر الأزهر فى عام ١٩١٩ إلى وفاته فى عام ١٩٦٤ فى عُجالة سريعة؛ إذ إن سيرة حياة القمص سرجيوس ثرية حقًا، عندما تُقلِّب صفحاتها ستجد مواقف ومعارك مع البابوات الأقباط من كيرلس الخامس وحتى كيرلس السادس فى سبيل الإصلاح القبطى. وأيضًا تجد معارك مع الزعامات والشخصيات التاريخية من سعد زغلول إلى النحاس، وحسن البنا، والنقراشى، ومكرم عبيد، والملك فاروق، ومحمد نجيب وعبدالناصر. إنها سيرة حياة تحطِّم الحائط الوهمى بين الدين والسياسة فى تاريخ مصر المعاصر.
وعلى الرغم من النشاط الدينى والسياسى الجَمّ لسرجيوس لن تبقى فى ذاكرة العقل الجمعى المصرى إلا صورة سرجيوس على منبر الأزهر خطيبًا فى ثورة ١٩١٩، ورمزًا للوحدة الوطنية، حيث تُستدعى صورة سرجيوس السابقة كلما هبت على الوطن حوادث طائفية، لا سيما فى فترة السبعينيات التى شهدت تصاعد حدة هذه الأحداث.
ففى عام ١٩٧٢ والوطن جريح من هزيمة يونيو ٦٧، وفى طريقه لنصر أكتوبر، شهدت مصر بعض الأحداث الطائفية العنيفة. وخصصت جريدة الأخبار افتتاحيتها لاستدعاء التاريخ لعلاج هذه الأحداث، حيث كان عنوان الافتتاحية «القمص سرجيوس وذكريات الوحدة الوطنية فى ثورة ١٩١٩».
وقامت مجلة الشباب بالشىء نفسه؛ إذ نشرت موضوعًا فى ديسمبر ١٩٧٢ تحت عنوان «مولانا القاياتى وأبونا سرجيوس» لتوعية الشبان بتاريخهم، وإلقاء الضوء على مظاهر الوحدة الوطنية، حتى تختفى الحوادث الطائفية.
ولم تقف هذه الظاهرة عند حد الصحف القومية، وإنما امتدت إلى الصحف الدينية المسيحية، ففى نوفمبر ١٩٧٢ نشرت مجلة «حامل الرسالة» المسيحية موضوعًا عن القمص سرجيوس ودوره فى الوحدة الوطنية فى ثورة ١٩١٩ تحت عنوان «الدين لله والوطن للجميع» وصفت فيه سرجيوس بأنه «قديس الوحدة الوطنية والثورة المصرية».
وفى عام ١٩٧٧ نشرت جريدة الجمهورية موضوعًا عن سرجيوس تحت عنوان «خطيب ثورة ١٩١٩». وفى العام نفسه أعادت مجلة «الفداء المسيحية» نشر ذكريات القمص سرجيوس عن ثورة ١٩١٩، ودوره فى الحركة الوطنية، مطالبة «بعودة الروح» مرة أخرى.
وفى عام ١٩٧٨ نشرت الصفحة الدينية فى الأخبار صورة سرجيوس وأشادت به خطيبًا وطنيًا على منبر الأزهر، مسترجعة بذلك ذكريات الوحدة الوطنية فى ثورة ١٩١٩.
وفى عام ١٩٧٩ عندما بدأ الصحفى الكبير حافظ محمود كتابة ذكرياته عن قصة الوحدة الوطنية، كانت صورة سرجيوس خطيبًا فى الأزهر إبان ثورة ١٩١٩ هى حجر الزاوية الذى بنى عليه ذكرياته عن قصة الوحدة الوطنية.
هكذا أصبح سرجيوس ظاهرة مهمة فى تاريخنا المعاصر، وأصبح استدعاء الدور التاريخى لسرجيوس عاملًا من أهم عوامل مواجهة الفتنة الطائفية، فضلًا عن إبراز مدى أهمية التاريخ فى عودة الروح للوطن من جديد.