هل اعتماد الرواية الدينية الرسمية هو الأصح؟
فى الدين، كما فى الشئون الأخرى، تتعدد روايات الأمر الواحد، ويمكن حصر ذلك التعدد فى روايتين اثنتين، تكون إحداهما رسمية، وتكون الثانية غير رسمية، الرواية الرسمية تورث اليقين من الأول إلى الآخر، وغير الرسمية تفتح أبواب الشكوك، قبل أن ترسو بأصحابها على شاطئ من الشواطئ، أو تقيمهم فى دائرة الإبحار الذى يفتش عن مرساه سرمديًا.
الدين شأن حساس جدًا فى الحقيقة، وعليه يجب أن نعتمد رواية من هاتين الروايتين فى مقامه، رواية تقنع عقولنا وتشبع أرواحنا، وقد اتفقت الأكثرية على أن الرسمية هى الأجدر، واعتمدتها فعليًا منذ قرون، قد لا تكون مقنعة للعقول إلى حد نهائى ولا مشبعة للأرواح إلى درجة قصوى، إلا أنها تفضى إلى طمأنينة مطلوبة فى الإطار الدينى، ولا تبلبل الناس ولا الألسنة ولا الآراء.
على كل حال أنا لا أتحدث هنا على المستوى العمومى الذى أعلم أن الرواية الرسمية هى المعتمدة فيه، إنما على المستوى الشخصى، كل إنسان حر فيما يعتقده طبعًا، غير أننى أرى الحيرة واضحة فى الأشخاص الذين ينصتون إلى أصحاب الرواية الثانية «غير الرسمية»، وأسأل: ما النتيجة؟ لا هم بقوا على دينهم الذى عرفوه منذ الصغر «الدين الرسمى»، ولا هم وافقوا موافقة كاملة على الصورة الجديدة التى عرفوها عنه من خلال الإعلام بتنوعات وسائله، بل ازدادوا حيرة واضطربوا اضطرابًا كبيرًا، وحتى لو كانوا وافقوا على هذه الصورة وتحولوا إليها بكلياتهم؛ فما جدوى قناعتهم؟، سيظل الباقون، وهم الكثرة المجتمعية الكاثرة، متمسكين بالرواية الرسمية، وقد يحدث جدل عصبى مهين، ويكون عداء وتكون فتنًا.
الأزهر، مثلًا، راو رسمى للدين، والمفكرون المستقلون رواة غير رسميين، ومن بينهم ليبراليون وعلمانيون وربوبيون ولاأدريون، لهم ما يشاءون، غير أن المشكلات التى تثيرها أفكارهم أكثر من الحلول، وأحاديثهم المغايرة لما تعلمه الناس من الدين تفرق ولا تجمع وتهدم ولا تبنى، إلا قلة منهم تريد تنويرًا صادقًا للمؤمنين؛ فتخدش الثوابت بهدوء لا ينجم عنه نزف مقلق.
الأزهر إسلامى وحسب، ربما كان تقليديًا، لكنه يحاول الابتكار، وفى النهاية هو يحافظ على الإرث الدينى من الاختلاط والتشوه، الاختلاط بمفاهيم غريبة وافدة والتشوه نتيجة لعدم الإحاطة الكافية ببساطة الدين وسماحته، والأزهر يلعب أدوارًا جادة كثيرة فى تطور الحالة الدينية إلى ما يوافق تقدم الحياة ويلائم الحقوق الإنسانية التى باتت تتصدر المشاهد، نعم نلاحظ عليه أحيانًا ما يضايقنا، لكنه يعمل بإخلاص فيما هو مؤهل تمامًا له.
يقول الأزهر مثلًا بشأن الرسالة المحمدية: نتبع الرسول «ص» اتباعًا تامًا كاملًا طائعين «ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا». ويقول نفر من غير الرسميين بالشأن نفسه: يجب أن نفرق بين الرسول «ص» كرسول، وبينه كحاكم، وكزوج، وكقائد عسكرى.. يجب أن نتبع الرسول وحده «أى تجليات حالته الرسولية بذاتها» ولا نتبع الحاكم ولا الزوج ولا القائد العسكرى.. إلخ.
وبفرض أن الإنسان ترك الأزهر، وصدق هذا المفكر، وتبع كلامه، فما المحصلة الأخيرة لهذا التصديق؟ أتفهم أنا ما يرمى إليه الرجل، وأثمن اجتهاده تثمينًا، لكننى، للأمانة، قد أكون متخوفًا من عواقب تصديقه دون فقه يساوى تفسيره.
لا يعنى الأمر انتصارى للرواية الرسمية، وأرجو ألا يتم فهمى هكذا، لكننى أظهر تحفظى من الرواية الثانية حيث يجب أن يظهر، وقد يكون مفيدا الآن أن أقول إن الرواية الرسمية، وإن كانت تورث اليقين كما بدأت، إلا أنها تخدر عقول أهلها تقريبًا؛ فتعطلهم عن التفكير الذى يلزم البشر ليصلوا إلى الحقيقة وصولًا واعيًا، وقد أحاطوا بالمعارف الضرورية، فى أثناء رحلتهم الشاقة، وتخلصوا من التذبذب، ومن النفاق الدينى الذى صار رائجًا للأسف، وصارت نفوسهم أقوى وأنقى.
لقد حبذ أغلبية المسلمين اعتماد الرواية الأزهرية لا رواية المفكرين المستقلين فى الدين؛ لأنهم رأوها الأقرب إلى الفطر والقلوب، ولا تنتج شقاقًا، أقصد رأوا حكايتها على هذا النحو، غير أننى أحبذ طرح الموضوع على الناس ليختاروا، بحرية، ما يرونه الأنسب، أعيد الطرح، بطريقتى، مهما يكن مسبوقًا بطرق أخرى تشبه طارحيه قبلى، مستثمرًا وقتًا انتشرت فيه مناهج البحث العلمى، وانقسمت الكتل الضخمة وتفتتت، بعد أن لم يكن أحد يتوقع انقسامها ولا تفتتها، ولم يعد سبيل إلى الفوضى القديمة التى أنتجت الجهل والإرهاب والركود وعدم الثقة. والله تعالى من وراء القصد.