دولة «حبيسة» تعترف بإقليم «انفصالى»!
مثلما كان الوصول إلى المياه الدافئة حلمًا للأمم والإمبراطوريات التى حكمت روسيا فى الماضى.. فإن الممالك الإثيوبية عبر التاريخ، خاضت حروبًا طويلة للوصول إلى البحر الأحمر، انهزمت فى بعضها وانتصرت فى أخرى، لكن حلمها فى كسر «قيود السجن الجغرافى» ما زال مستمرًا، ويتم التعبير عنه أحيانًا بشكل علنى ورسمى.. إذ يمثل توقيع رئيس الوزراء الإثيوبى، آبى أحمد، على مذكرة تفاهم مع رئيس إقليم أرض الصومال، موسى بيحى، لتأجير ميناء بربرة، أحدث تطور فى مساعى الدولة الحبيسة، لإيجاد منفذ على البحر الأحمر، وإعادة تأسيس قوات بحرية على مقربة من مضيق باب المندب الاستراتيجى، من جهة خليج عدن.
تنص مذكرة التفاهم، التى تم التوقيع عليها فى أديس أبابا، فى الأول من يناير الماضى، على تأجير إثيوبيا نحو عشرين كيلو مترًا من الوصول البحرى فى ميناء بربرة، شمالى إقليم أرض الصومال، لمدة نصف قرن، وفى المقابل، تعترف إثيوبيا رسميًا بأرض الصومال، «فى وقت ما فى المستقبل»!، كدولة مستقلة.. كما ستحصل أرض الصومال أيضًا على حصة فى الخطوط الجوية الإثيوبية الحكومية.. هذه المذكرة تمهد الطريق لإثيوبيا للتجارة البحرية فى المنطقة، بمنحها إمكانية الوصول إلى قاعدة بحرية عسكرية مُستأجرة على البحر الأحمر، لكن هذه المذكرة واجهت معارضة شديدة من الحكومة الصومالية، ورفضتها مصر والجامعة العربية، وعبرت تركيا عن قلقها من الحلم الإثيوبى الذى باتت تحلم به أديس أبابا.
فى أكتوبر الماضى، ألقى آبى أحمد، خطابًا مُطولًا، اعتبر فيه أن «حقوق إثيوبيا ومطالباتها بالوصول إلى ميناء، متجذرة فى أسباب جغرافية وتاريخية وعرقية واقتصادية»، ويرى آبى أحمد، أنه مع تزايد عدد السكان فى إثيوبيا، لم تعد مسألة مناقشة الحصول على منفذ بحرى على البحر الأحمر ترفًا، وإنما «قضية وجودية»، لأن ثانى أكبر بلد إفريقى من حيث عدد السكان، بدون إطلالة بحرية، ويكلف استخدام إثيوبيا لميناء جيبوتى نحو مليار ونصف المليار دولار سنويًا، ومن شأن استغلالها ميناء بربرة فى أرض الصومال، أن يوفر لها 30% على الأقل من هذه القيمة، وفق بعض التقديرات.. ليبقى هذا الاتفاق ليس الأول من نوعه، إذ سبق لإثيوبيا أن أبرمت اتفاقية ثلاثية لشراء حصة فى ميناء بربرة فى مارس 2018، تبلغ 19%، بحيث تستثمر فى البنية التحتية لبربرة كبوابة تجارية لها.. لكن حصة الأسد تعود إلى «موانئ دبى العالمية» بنسبة 51% من المشروع، بينما 30% المتبقية لـ«موانئ أرض الصومال»، إلا أن المشروع لم ير النور، خصوصًا فى ظل معارضة الحكومة الصومالية فى مقديشو.
فى نفس العام، أعلنت وسائل إعلام إثيوبية حكومية، عن رغبة أديس أبابا فى الاستحواذ على حصة فى ميناء جيبوتى، بموجب اتفاق تم التوصل إليه بين الدولتين، بعد إنهاء الأخيرة عقود امتياز مع «موانئ دبى العالمية»، ناهيك عن مساعى إثيوبية سابقة للحصول على منفذ بحرى على البحر الأحمر، سواء من إريتريا أو من السودان، وحتى من الصومال، وكينيا عبر المحيط الهندى.. وليست الأهداف الاقتصادية والتجارية وحدها وراء رغبة إثيوبيا فى تأجير ميناء بربرة، بل إن آبى أحمد ومنذ وصوله السلطة فى 2018، سعى لإحياء الأسطول البحرى، الذى فقدته بلاده بعد انفصال إريتريا عنها فى 1991، واستقلالها رسميًا فى 1993.. فإريتريا كانت ضمن اتحاد فيدرالى مع إثيوبيا «1952- 1962»، بعد خضوعها للاحتلال الإيطالى ثم الانتداب البريطانى تتمتع بموجبه بحكم ذاتى، لكن إلغاء أديس أبابا الحكم الذاتى أشعل ثورة فى البلاد استمرت ثلاثة عقود.. ولم تفقد إثيوبيا قواعدها العسكرية على البحر الأحمر فحسب، بل إن اندلاع الحرب مجددًا بين الطرفين «1998- 2000»، أفقدها امتيازاتها التجارية فى ميناء مصوع الإريترى.. وحلت إثيوبيا أسطولها البحرى، لكن آبى أحمد تعهد فى يونيو 2018، بإعادة بناء القدرات البحرية للجيش الإثيوبى.
لم يتأخر آبى أحمد فى تنفيذ تعهده، ففى مارس 2019، وقع اتفاقية تعاون دفاعى مع الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، لتطوير سلاح البحرية الإثيوبى، وتدريب البحارة الإثيوبيين بفرنسا.. ثم أعادت إثيوبيا تأسيس أسطولها البحرى فى 2020، بعد نحو ثلاثة عقوده من حله، فى سعيها لإعادة إحياء «البحرية الإمبراطورية»، وفق تقرير لمركز مقديشو للبحوث والدراسات، رغم عدم امتلاكها أى إطلال بحرية، فهى بلد نهرى، لكن أغلب أنهارها المتدفقة من أعلى الهضبة الإثيوبية غير صالحة للملاحة.
وبينما يشعر سكان أرض الصومال بأنهم قريبون مما سعوا إليه لأكثر من ثلاثة عقود، يواجه حلمهم معارضة قوية من الصومال، إذ لم تقبل هذه الأخيرة أبدًا إعلان أرض الصومال عن استقلالها، وألغى الرئيس الصومالى، حسن شيخ محمود مذكرة التفاهم بعد خمسة أيام من توقيعها، متهمًا إثيوبيا بـ«محاولة ضم» أراضى الصومال.. وحذر فى يناير الماضى من أن «هذا الإجراء غير القانونى سيتسبب فى توترات وصراع وعدم استقرار إقليمى إذا لم يتم سحبه».. وتصاعدت التوترات بين الصومال وإثيوبيا منذ أن طرد الصومال السفير الإثيوبى من مقديشو، وأمر بإغلاق القنصليات فى هارجيسا ومدينة جاروى، عاصمة منطقة بونتلاند شبه المستقلة فى الصومال.. كما لا يظهر الاتحاد الإفريقى متحمسًا لفكرة إضافة دولة جديدة، وفى بيان دعا فيه إلى «الهدوء والاحترام المتبادل لخفض منسوب التوتر المتصاعد» بين إثيوبيا والصومال، قال رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقى، موسى فكى محمد، إنه أمر ضرورى «احترام وحدة وسيادة الأراضى والسيادة الكاملة لجميع الدول الأعضاء فى الاتحاد الإفريقى».. كما وقف الاتّحاد الأوروبى إلى جانب الصومال، وقال بعد توقيع الاتفاق بين أرض الصومال وإثيوبيا، إن احترام سيادة الصومال هو «مفتاح» السلام فى القرن الإفريقى، وإن الاتحاد «يود التذكير بأهمية احترام وحدة جمهورية الصومال الفيدرالية وسيادتها وسلامة أراضيها، وفقًا لدستورها ومواثيق الاتحاد الإفريقى والأمم المتحدة».. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، إن بلاده تشعر بالقلق إزاء التقارير التى تفيد بأن إثيوبيا ستعترف باستقلال أرض الصومال، و«إننا ننضم إلى الشركاء الآخرين فى التعبير عن قلقنا البالغ، بشأن تصاعد التوترات الناتجة فى القرن الإفريقى».
إن يأس زعيمَى إثيوبيا وأرض الصومال من إيجاد حلول سياسية لمشكلاتهما الداخلية، دفعهما إلى استكشاف تكتيكات غير تقليدية، ومغامرة تلتقى مع تطلعاتهما وتحول الانتباه عن الأزمات الداخلية.. فجذور مذكرة التفاهم تعود إلى النهج الشعبوى والشخصى الذى يتبعه رئيس وزراء إثيوبيا، آبى أحمد، فى السياسة الداخلية والعلاقات الخارجية؛ استجابةً للتحديات الداخلية الصعبة التى تواجهها إثيوبيا.. وبالمثل، فإن رئيس إقليم أرض الصومال، موسى بيحى، يمرّ بأجواء سياسية معقدة، طامحًا فى إطالة أمد بقائه فى السلطة، وسط تزايد المعارضة وفشله فى الحرب مع منطقة خاتومو الواقعة فى الجزء الشرقى من أرض الصومال التاريخية.. لقد دفعت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التى تجتاح شعوب أبى أحمد وبيحى، إلى البحث عن حلول غير تقليدية للأزمات الداخلية المعقدة التى يعيشان فيها.. بالنسبة لإثيوبيا، فإن السعى إلى إنشاء ممر فى خليج عدن يمثل تحركًا استراتيجيًا لتأمين الوصول البحرى الآمن، وأن تخفف من الاعتماد الدائم على جيبوتى وإريتريا فى التجارة البحرية، وهو حلم راود فترة من الزمن إثيوبيا غير الساحلية.. وفى الوقت نفسه، كان تطلع أرض الصومال إلى الاعتراف الدولى كدولة مستقلة، هدفًا طويل الأمد.. وفشلت أرض الصومال، التى انفصلت عن الصومال عام 1991، فى الحصول على اعتراف دولى، ولم تسفر المفاوضات مع الدولة الفيدرالية الصومالية عن نتائج ملموسة.. ويرى بيحى، أن مذكرة التفاهم هذه، تمثل فرصة لأرض الصومال لتحقيق هذا الهدف من خلال إثيوبيا.. وإن استعداد بيحى للانخراط فى مثل هذا الاتفاق، يعكس خطورة التحديات الداخلية التى تواجهها أرض الصومال، بما فى ذلك عدم الاستقرار السياسى، والصعوبات الاقتصادية، والتوترات الاجتماعية.
■■ وبعد..
فقد تعهدت مصر بدعم الصومال.. وأبلغ الرئيس عبدالفتاح السيسى، نظيره الصومالى، حسن شيخ محمود، أن مصر تقف إلى جانب بلاده وتدعم أمنه واستقراره.. ووقعت القاهرة مع مقديشو، بروتوكول تعاون عسكرى بين البلدين، كما قررت القاهرة فتح سفارة جديدة لها فى العاصمة مقديشو.. وأكد الرئيس السيسى، موقف مصر الداعم لوحدة وسيادة الصومال على أراضيه، والرافض لأى تدخل فى شئونه الداخلية، حيث تم التوافق على تكثيف التشاور والتنسيق خلال الفترة المقبلة، لمواصلة العمل على إرساء الأمن والاستقرار فى منطقة القرن الإفريقى.. لماذ؟ وكيف؟.. هذا موضوع المقال القادم.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.