الحشد الأمريكى.. هل يخدم إسرائيل وحدها؟
واصلت الولايات المتحدة حشدها العسكرى غير المسبوق فى الشرق الأوسط منذ عقود، دعمًا لحليفتها الأولى بالمنطقة إسرائيل، التى تشن حملة عسكرية واسعة فى قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضى، فى أعقاب هجمات حركة حماس.. وصلت أكبر غواصة نووية أمريكية إلى الشرق الأوسط «يو إس إس أوهايو» لدعم إسرائيل، لتنضم إلى حاملتى الطائرات الأمريكيتين «جيرالد فورد» و«دوايت دى آيزنهاور»، اللتين أُرسلتا إلى المنطقة بكامل تسليحهما والسفن التابعة، فضلًا عن فرق وخبراء عسكريين.. وفى الوقت الذى ما زالت فيه الإدارة الأمريكية، ممثلة فى الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس، تصرح بضرورة الحفاظ على حياة المدنيين فى غزة، واعترافها ببشاعة الصور والتدمير وحجم الضحايا، تكشف التقارير الصحفية فى واشنطن وفى إسرائيل عن أنه منذ بداية الحرب، وصلت 240 طائرة وعشرون سفينة شحن أمريكية، تحمل مساعدات عسكرية إلى إسرائيل، وفتحت الولايات المتحدة جسرًا جويًا لنقل الأسلحة إلى إسرائيل، منذ بدء عملياتها العسكرية على قطاع غزة، مدعومة بأربعين ألف جندى.. وبينت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية أن الجسر الجوى الأمريكى سلَّم إسرائيل أكثر من عشرة آلاف طن من الأسلحة والمعدات العسكرية، وتقول وزارة الدفاع الاسرائيلية إنها قامت بمشتريات إضافية بقيمة أربعين مليار شيكل من الولايات المتحدة، شملت مركبات مدرعة وأسلحة ومعدات حماية شخصية وذخيرة وإمدادات طبية وغيرها.. فهل تريد واشنطن حقًا إيقاف الحرب فى قطاع غزة.. أم اندلاع حرب أوسع فى الشرق الأوسط؟
ويتساءل المتخصون، هل تحريك أمريكا أحد أضلاع الثالوث النووى، الغواصة النووية «يو إس إس أوهايو»، فى قرار نادر، هى رسالة ردع موجهة بوضوح إلى الخصوم، روسيا والصين وأطراف إقليمية، من بينها إيران ووكلاؤها فى المنطقة، أم محاولة من إدارة الرئيس جو بايدن لتجنب صراع أوسع، وسط الحرب المستمرة بين إسرائيل وحماس؟
«تمتلك الولايات المتحدة النية أن تبقى الحرب مستمرة، أكثر من نية إسرائيل، التى باتت غير راغبة فى إطالة أمد الحرب، نتيجة تضرر الجبهة الداخلية وتعالى أصوات الرفض للحرب، وشلل الاقتصاد وتعطل آلات العمل والزراعة والسياحة، وإلغاء رحلات الطيران وحجوزات الفنادق.. وإذا لاحظنا التاريخ، فإن إسرائيل تعتمد استراتيجيات الحرب تحت حماية الولايات المتحدة وقوى الغرب، وتلجأ إلى الحرب الخاطفة واغتنام الأهداف خلال أيام، وهذا ثابت تاريخيًا فى معاركها ضد جيرانها من الدول العربية».. كما يقول الباحث الروسى، مدير مركز GCM للدراسات فى موسكو، آصف ملحم، الذى يؤكد أن الحشد العسكرى بوصول غواصة نووية واثنتين من أكبر حاملات الطائرات فى ترسانة البحرية الأمريكية، ليس عبثيًا أو لاستعراض القوة بالمنطقة، لكن الرسالة الواضحة دون مواربة، هى التصدى لأى احتمالات فى طريق توسعة دائرة الحرب التى تعيش على برميل متفجر، فى ظل حالة شحن سياسى وشعبوى غير مسبوقة منذ حرب لبنان 2006، وهناك مخططات أمريكية للاستفادة أكثر من الحرب، فى تقزيم أذرع وأصدقاء روسيا والصين فى المنطقة.
تشير التقارير إلى نوع من التراجع الأمريكى فى المنطقة خلال السنوات الأخيرة، لصالح نفوذ آخر، هو الروسى الصينى، الذى أصبح واضحًا فى غرب ووسط إفريقيا ومناطق من قارة آسيا.. وعندما أدركت واشنطن خطر انضمام دول شرق أوسطية إلى تجمع «بريكس»، الذى يضم موسكو وبكين، راحت تشجع إسرائيل على استعادة الردع العسكرى، باعتبارها الوريثة الشرعية للمد الأمريكى فى المنطقة.. وتحاول الولايات المتحدة حاليًا العودة القوية إلى المنطقة، فى تحرك مضاد لأطراف صديقة لروسيا والصين، أهمها إيران وسوريا والعراق وآخرون، فى محاولة قوية من واشنطن لتحجيم التمدد الروسى، فى ظل تعاون نفطى موسع بين موسكو وأطراف إقليمية.. ولذلك، فإن واشنطن تمارس سلطويتها السياسية والعسكرية على العالم، فى تحد لأى رءوس طامحة فى العرش العالمى، بعد أن أفشل «فيتو» أمريكى بريطانى فرنسى محاولات فى مجلس الأمن لتمرير مشروع قرار روسى، لإقرار هدنة إنسانية فى غزة، فضلًا عن إصباغ الحماية الكاملة على الجيش الإسرائيلى فى عملياته بالقطاع.
إن الحشد النووى والبحرى الأمريكى فى الشرق الأوسط يهدف فى المقام الأول إلى ردع الدول والمنظمات التى تحاول توسيع الصراع فى الشرق الأوسط، على هامش الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.. تحركت واشنطن بعددها وعديدها لردع أى محاولات للاستفادة من الحرب أو العمل على تغذيتها، لا سيما أنها تدرك جيدًا أنه ليس من مصلحتها امتداد دائرة الحرب، بما سيؤثر سلبًا على مصالحها الاقتصادية وعلاقاتها السياسية فى مناطق كثيرة، لا سيما آسيا وإفريقيا.. هناك رسالة ردع أمريكية واضحة ضد تفكير أى قوى إقليمية أو أذرعها، لا سيما إيران وحزب الله، من دخول الحرب.. هناك أيضًا تهديد مبطن لروسيا والصين بأن الشرق الأوسط منطقة مصالح أمريكية خاصة لا تحتمل القسمة على ثلاثة.
بالنسبة للوضع الاستراتيجى فى منطقة الشرق الأوسط والخليج، فإن أمريكا تعتبر أن أهم التهديدات لمصالحها وللنظام الإقليمى الذى تهيمن وتسيطر عليه إلى حد كبير، هو فى سياسات إيران وحلفائها فى المنطقة، ليس فقط فى تنامى قدراتها العسكرية والتكنولوجية المتعاظمة، التى اكتسبتها منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولكن أيضًا لقدرة السياسة الإيرانية على عمل اختراقات فى أكثر من إقليم، خصوصًا على مستوى الصراع مع الكيان الصهيونى فى فلسطين ولبنان، بالإضافة إلى نفوذها المتزايد فى العراق وسوريا واليمن، وسياساتها المتصالحة مع دول الخليج.
فى ظل هذه التحديات، ومع قرار الولايات المتحدة تخفيف وجودها العسكرى المباشر فى المنطقة، حتى تتفرغ للتحدى الصينى فى شرق وجنوب شرق آسيا، أرادت أمريكا أن تعيد تنظيم المنطقة لتوكِل لقوى إقليمية التصدى للنفوذ الإيرانى وسياساته المناوئة، والحفاظ على الاستقرار الإقليمى، لضمان المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأمريكية.. النظام الإقليمى الذى أرادت أمريكا أن تقيمه فى الشرق الأوسط كان يعتمد فى جوهره على التحالف بين الكيان الإسرائيلى الحليف الاستراتيجى والشريك الأكبر للحفاظ على المصالح الاستراتيجية الأمريكية والأنظمة العربية المتحالفة مع واشنطن.. وتحاول أمريكا من خلال سياسة متهورة استعادة الصورة المنهارة للكيان الإسرائيلى المتأزم، الذى كانت ستعتمد عليه فى الحفاظ على أمن المنطقة ومصالحها الاستراتيجية بعد تخفيف وجودها العسكرى المباشر.
كانت النخبة السياسية والعسكرية الأمريكية الحاكمة تدرك صعوبة إقامة تحالف بين الكيان الصهيونى والأنظمة العربية المتحالفة معها، دون إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية من خلال ما يسمى بحل الدولتين، إلا أن التعنت والصلف والغطرسة الإسرائيلية وهيمنة اليمين المتطرف ليس فقط على السياسة الإسرائيلية وإنما أيضًا على النخب الأمريكية الحاكمة أطاح بكل المحاولات الأمريكية لإيجاد تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، ما أدى إلى قبول واشنطن لتجاوزها والتماهى مع السياسة الإسرائيلية، التى كانت تدعو إلى إدارة الأزمة بدلًا من حلها.
- وبعد..
قبل انتهاء حكم الرئيس باراك أوباما، بداية 2017، توصلت واشطن لاتفاق مع إسرائيل تقدم معه ثمانية وثلاثين مليار دولار للجيش الإسرائيلى على مدى سنوات عشر، وهى أموال تستخدم للمساعدة المباشرة وغير المباشرة فى العنف ضد الفلسطينيين الذى يقوم به جيش الاحتلال.. ولم يعترض أعضاء الكونجرس على هذه الاتفاقية.. وعلى الرغم من قوة الدعم لإسرائيل بين الشعب والساسة فى الولايات المتحدة، فقد عرفت بعض الأصوات المهمة طريقها لمعارضة إسرائيل خلال السنوات القليلة الماضية.. وقد مثًّل رد فعل السيناتور بيرنى ساندرز والسيناتورة إليزابيث وارين، المعارض للعنف الإسرائيلى والمطالب بوقف الهجمات الإسرائيلية على الفور، مفاجأة للكثير من المراقبين، خصوصًا بعدما انضم أكثر من خمسة وعشرون نائبًا من أعضاء مجلس النواب، لدعوات ساندرز ووارين.
دعا ساندرز، إلى ضرورة وقوف أمريكا مع «حقوق الفلسطينيين» وحياتهم، مثلما تدعم حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها.. وقال ساندرز فى مقال بصحيفة «نيويورك تايمز»، إن «لإسرائيل الحق فى الدفاع عن نفسها» عبارة يرددها الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء، كلما تعرضت إسرائيل لهجوم صاروخى من قطاع غزة، ورغم تأكيده على هذا الحق للحكومة الإسرائيلية، تساءل السيناتور الأمريكى: «لكن ماذا عن حقوق الفلسطينيين؟».. ورأى ساندرز أن لدى بايدن الفرصة لتبنى مقاربة عادلة، وأنه يجب أن تتبنى أمريكا سياسة أكثر عدلًا بين طرفى النزاع، إذا كانت تريد حقًا سلامًا فى المنطقة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.