للسلام بين الرياض وتل أبيب ثمنٌ غالٍ
كان الرئيس عبدالفتاح السيسى، فيما أقدم عليه، من دعم الثورة الشعبية فى الثلاثين من يونيو، للتخلص من حكم الإخوان، رغم ما انطوت عليه هذه الوقفة من مخاطر، واضعًا رأسه على كفه، من أجل أن يتخلص المصريون من كابوس حكم جماعة الإخوان فى مصر على مدى عام كامل، ذاق الشعب خلاله ويلات الإقصاء والاستحواذ على الدولة المصرية، وكأنها أصبحت غنيمة لهم، مؤملين أن يستمر حكمهم لخمسمائة عام مقبلة.. ثم كان مشروعه لبناء الجمهورية الجديدة، وترسيخ دعائم الدولة الحديثة، من خلال برنامجه الطموح «مصر 2030»، وما شهدته مصر من مشروعات قومية عملاقة، وغير مسبوقة.. وانحيازه التام لقضية الشعب الفلسطينى، وحقه فى إقامة دولة مستقلة، ودفاع مصر المستميت، حتى لا يطوى النسيان هذه القضية المصيرية.. كل ذلك كان ملهمًا لبعض القادة فى المنطقة العربية.. رأينا ذلك فى الرئيس قيس بن سعيد، رئيس الجمهورية التونسية، الذى أطاح بحركة «النهضة» الإخوانية فى بلاده، وعلى رأسها راشد الغنوشى.. ورأيناه كذلك فى الأمير محمد بن سلمان، ولى عهد المملكة العربية السعودية، وما عُرف عنه من شجاعة حاكم قومى، يريد النهوض ببلاده، وينفض عنها غبار سنوات طويلة من سيطرة المتشددين الإسلاميين على الحياة فى المملكة، وما ذهب إليه من تغييرات اجتماعية جذرية، نقلت المجتمع السعودى إلى منطقة أخرى، لم تكن تعرفها، ولم تحلم بالوصول إليها يومًا.. ثم أعلن عن برنامجه الطموح فى بناء دولة عصرية، تقوم على الحرية والانفتاح على الآخر، حتى ولو كان هذا الآخر هو إسرائيل، لكن بشروط الأمير الشاب، وعلى رأسها حل الدولتين، لإنهاء الصراع الإسرائيلى الفلسطينى إلى الأبد.
إن صنع السلام عمل خطير.. هذا صحيح بشكل خاص فى الشرق الأوسط.. حتى قبل حرب غزة، كان محمد بن سلمان يُخاطر بفكرة إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، «هذا قرار مهم بالنسبة لى.. لهذا السبب أحتاج إلى شىء يدعمنى فى ذلك»، كما نقل عنه دينيس روس، المفاوض المخضرم فى الشرق الأوسط، الذى عمل مع العديد من الرؤساء الأمريكيين، لصحيفة Politico، فابن سلمان يعتقد أنه بدون حل القضية الفلسطينية، لن تستفيد بلاده من الفوائد الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية المفترضة للصفقة الشاملة.. ذلك لأنه «لن يكون لدينا أمن واستقرار إقليمى دون معالجة القضية الفلسطينية».. وهنا، يرى دينيس أن «تعليقات محمد بن سلمان كانت منطقية فى سياق الطريقة التى وصفه بها الآخرون كقومى سعودى وما إذا كان يهتم شخصيًا بالقضية الفلسطينية التى سيدعمها، إذا كانت تفيد المملكة العربية السعودية».. وشئنا أم أبينا، يمكن للصفقة الضخمة التى يجرى إعدادها أن تغير الشرق الأوسط بشكل كبير.
وقد ذكر الأمير محمد بن سلمان لأعضاء الكونجرس الأمريكى، كما قالت ناحال طوسى، كبيرة مراسلى الشئون الخارجية فى «بوليتيكو»، أنه يُعرض حياته للخطر، من خلال السعى إلى صفقة كبرى مع الولايات المتحدة وإسرائيل، تشمل تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية.. واستدعى لهم الرئيس أنور السادات، الزعيم الذى قتله المتطرفون بعد إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل، متسائلًا عما فعلته الولايات المتحدة لحماية السادات!!.. وستكون خطوته للتطبيع مع إسرائيل مخاطرة شخصية شرق أوسطية أخرى، بعدما تم اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلى، إسحاق رابين، بسبب سعيه لتحقيق السلام، فى اتفاق أوسلو، مع الرئيس الفلسطينى الراحل، ياسر عرفات. كما ناقش معهم التهديدات التى يواجهها، إذ لم يتضمن أى اتفاق من هذا القبيل مسارًا حقيقيًا لدولة فلسطينية، خصوصًا الآن، بعد أن زادت الحرب فى غزة من الغضب العربى تجاه إسرائيل.
كانت المناقشات مع الكونجرس ثقيلة وجادة، لكن يبدو أن ولى العهد السعودى عازم على إبرام صفقة ضخمة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، على الرغم من المخاطر التى تنطوى عليها، لأنه يرى أنها حاسمة لمستقبل بلاده، وقد بدأت حرب خفية ضده من واشنطن، للحيلولة دون مساعيه للنهوض بالمملكة، لتظل مجرد مورد للنفط إلى الغرب، والحيلولة دون أن يكون الاقتصاد السعودى بعيدًا عن «الريع»، والانطلاق فى اقتصاد الخدمات، كما تفعل أمريكا ذاتها.. وفى سبيل ذلك، أفسحت بعض الصحف هناك المجال أمام الدكتور سعد الجابرى، المسئول الأمنى السعودى السابق، لكيل الاتهامات للأمير الشاب، بقصد تشويه صورته، مما قد يحول دون تدفق الاستثمارات الأمريكية الخاصة باتجاه المملكة، بالرغم من ارتكاب سعد نفسه لقضايا فساد مالى وإهدار مليارات الدولارات، خلال فترة عمله بوزارة الداخلية السعودية، وهرب بعدها إلى كندا والولايات المتحدة.
وقد ظهرت الخطوط العريضة للاتفاق السرى إلى حد كبير، والذى لا يزال قيد التطوير، ويتضمن التزامات أمريكية متعددة تجاه السعوديين، بما فى ذلك ضمانات أمنية من خلال معاهدة الدفاع المشترك، ومساعدات فى برنامج نووى مدنى، واستثمار اقتصادى فى مجالات مثل التكنولوجيا.. ووفقًا لبعض التقارير، فإنه فى المقابل، ستحد السعودية من تعاملاتها مع الصين، كما أنها ستقيم علاقات دبلوماسية وغيرها مع إسرائيل، وهى نعمة كبيرة للإسرائيليين، كما يرى ناحال طوسى، نظرًا لأهمية المملكة العربية السعودية بين الدول الإسلامية.. ومع ذلك، فإن ما يثير استياء محمد بن سلمان هو أن الحكومة الإسرائيلية لم تكن راغبة فى تضمين الاتفاق، مسار موثوق به لإقامة دولة فلسطينية.. وقال أحد المطلعين على المحادثات التى أجراها محمد بن سلمان مع القادة الإقليميين والأمريكيين، إن الطريقة التى قال بها هى أن السعوديين يهتمون بشدة بهذا الأمر، والشارع فى جميع أنحاء الشرق الأوسط يهتم بشدة بهذا الأمر، «وفترة ولايتى كحارس للأماكن المقدسة لن تكون آمنة، إذا لم أتطرق إلى قضية العدالة الأكثر إلحاحًا فى منطقتنا»، فالدولة السعودية لا بد أن تكون عادلة، ولا تنخرط فى صفقة تُرسخ ظلم دولة، يقصد أن فلسطين عانت من ويلات الاحتلال لأكثر من خمس وسبعين سنة.
سبق للعديد من التقارير الغربية ذكر أن محمد بن سلمان لم يهتم بالفلسطينيين، لأنه رأى أن قضيتهم تُبطئ التقدم العربى، وأن قادتهم غير أكفاء لإدارة قضيتهم.. وتساءلت: لماذا يكون التهديد الذى يواجهه الآن أكثر خطورة من التهديدات التى واجهها منذ فترة طويلة؟.. لقد دفع إلى تغييرات اجتماعية جذرية فى المملكة العربية السعودية، وتهميش العديد من أقاربه ورجال الدين المتشددين الذين يرون ذلك بلا شك.. فهل يستخدم مثل هذه التهديدات، كوسيلة لجعل الولايات المتحدة تضغط على إسرائيل بشأن الدولة الفلسطينية المستقبلية؟.. إن القول إنك تضع رقبتك على المحك من أجل صفقة تاريخية محتملة، هو بالتأكيد طريقة مقنعة لجذب انتباه محاوريك.. ومن الإنصاف القول إنه ربما يكون هذا صحيحًا أيضًا.
فمع ارتفاع عدد القتلى فى غزة إلى حوالى أربعين ألف شهيد حتى الآن، غضب المواطنون فى الدول العربية من الفظائع الإسرائيلية.. وكانت هذه أحدث موجة من الغضب من الناس فى جميع أنحاء المنطقة، الذين يحتقرون إسرائيل بالفعل بسبب احتلالها المستمر منذ عقود للأراضى الفلسطينية.. والقضية الفلسطينية حساسة على وجه الخصوص، لأنها تؤذى الأمير الشاب مع الشباب السعودى، الذين يدعمون إصلاحاته الاجتماعية، ويوفرون له حصنًا ضد المتشددين الدينيين، وأفراد العائلة المالكة الذين يعارضونه، «لديه سكان صغار جدًا، تم تنشيطهم من نواح كثيرة، وتحفيزهم من خلال أول صراع كبير بين الإسرائيليين والفلسطينيين، شهده الكثير منهم فى حياتهم.. لا يتطلب الأمر أن تكون داخل رأسه، لفهم أن هذا من شأنه أن يثقل كاهله»، كما أخبر مسئول كبير فى إدارة بايدن محرر بوليتيكو.
لكن رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، تعهد بعدم السماح أبدًا بإقامة دولة فلسطينية، كما فعل أعضاء اليمين المتطرف فى ائتلافه الحاكم.. ويعارض الكثير من الجمهور الإسرائيلى الفكرة أيضًا، بعد هجوم حماس فى السابع من أكتوبر الماضى.. وحتى الآن، هناك القليل من الأدلة على أن الضغط الخارجى سيغير رأى نتنياهو.. حتى مطالب الرئيس جو بايدن لم تقنع نتنياهو بوضع خطة جادة، لكيفية التعامل مع غزة بعد الحرب، ناهيك عن الفلسطينيين ككل.. وعندما سُئل بعض المسئولين الإسرائيليين عن أفضل ما يمكن أن يقدمه أحدهم فى هذا الشأن، قالوا: «فهمنا هو أن حكومات الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل مهتمة جميعًا بالسعى للتوصل إلى اتفاق يغطى القضايا الثنائية بين الولايات المتحدة والسعودية والتطبيع الإسرائيلى السعودى.. ومع ذلك، سيتطلب الأمر شروطًا معينة لمثل هذه الصفقة، وليست كلها قائمة حاليًا».
ومع ذلك، ما زال فى الوقت بقية.. فبالنظر إلى الجدول الزمنى لانتخابات الرئاسة الأمريكية، والحاجة إلى تصديق مجلس الشيوخ على أى معاهدة معنية، لن تصبح الصفقة حقيقة واقعة فى أى وقت قريب.. لكن المتوقع، وبغض النظر عما إذا كانت نائبة الرئيس، كامالا هاريس، أو الرئيس السابق دونالد ترامب سيفوز بالرئاسة الأمريكية فى نوفمبر المقبل، فإن أيًا منهما سيظل يسعى للحصول على هذه الاتفاقية.. وعندما هاجم مسلحو حماس إسرائيل فى السابع من أكتوبر، ما أشعل الحرب التى لا تزال مستمرة حتى اليوم، خشى العديد من المراقبين من أن الصفقة الكبرى قد ماتت.. لكن المثير للدهشة أن كبار اللاعبين المعنيين لم يتخلوا عن الصفقة، معتبرين أنها حاسمة لاستقرار المنطقة على المدى الطويل.. ومع ذلك، كان لا بد من تغيير بعض العروض المطروحة على الطاولة.. فى تلك المرحلة، ربما تكون بعض التنازلات الصغيرة اتفاقات للمحادثات المستقبلية أو شيئًا من هذا القبيل قد أرضى السعوديين.. لكن المطلب السعودى الآن هو «مسار واضح لا رجعة فيه» إلى دولة فلسطينية.
ويبقى من غير الواضح على الإطلاق، ما إذا كانت استراتيجية محمد بن سلمان، المتمثلة فى التأكيد على المخاطرة التى يقوم بها، ستقنع نتنياهو بأنه يجب عليه أيضًا المخاطرة.. ويأمل كل من محمد بن سلمان والولايات المتحدة فى أن يسأل نتنياهو نفسه: ما هو الأفضل لبلاده على المدى الطويل، وليس فقط فى حالة الصدمة؟.. إن للسلام ثمنًا غاليًا، وعلى كلٍّ أن يدفع نصيبه من هذا الثمن.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.