رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

باقون على السلام.. مستعدون للحرب

تواصلًا مع مقالنا، أمس، قدمت إسرائيل خيارين للمنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر، المعروفة باسم ممر فيلادلفيا.. الأول، أن تحتفظ إسرائيل بقوات محدودة على الأرض، كما فعلت منذ توغل جيشها بالمنطقة فى مايو الماضى، بعد أن استولى على معبر رفح وفرض سيطرته على طول الحدود، فى خطوة أدانتها مصر، باعتبارها خرقًا لاتفاق السلام عام 1979، وقد ادعت تل أبيب «أنها لا تثق فى مصر لمنع نقل الأسلحة والمواد الأخرى إلى الجماعات الفلسطينية فى غزة من سيناء»، والثانى، اقترحت إسرائيل سحب جنودها واستبدالهم بحاجز تحت الأرض عالى التقنية، مجهز بأجهزة استشعار إلكترونية متطورة، متصلة بغرفة عمليات إسرائيلية وأخرى فى مصر، ومن شأن أجهزة الاستشعار أن تنبه إسرائيل إلى محاولات حفر أنفاق عبر الحدود وغيرها من وسائل التهريب، التى قالت المصادر إنها ستؤدى إلى ضربات إسرائيلية من الأرض أو الجو، حتى ولو كانت على الحدود فى سيناء.. وقد رفضت مصر هذا الخيار مرارًا وتكرارًا، حيث تعتقد أنه ينتهك السيادة المصرية ويضر بالأمن القومى.. وحرصت القاهرة على التأكيد، على أن معبر رفح هو خط أحمر بالنسبة لمصر، التى تصر على أن إسرائيل يجب أن تخرج منه وتنقل إدارته إلى نوع من السلطة الفلسطينية.. ومن المستبعد أن توافق إسرائيل على قيام حماس بتشغيل المعبر مرة أخرى.. وعلى الرغم من أن الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، أصر على ضرورة عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة لإدارة القطاع، إلا أن الحكومة الإسرائيلية متحفظة بشأن هذا الخيار أيضًا.
وتعتقد الحكومة الإسرائيلية، أن من تبقى من قادة ومقاتلى حركة حماس وأسلحتهم يتحصنون فى محافظة رفح، وأنه من الضرورى الوصول إليهم والقضاء عليهم، ولو استغرق الأمر شهورًا، وأن ذلك لن يتم إلا بفرض سيطرة كاملة على كل منطقة فى قطاع غزة.. ويرد المسئولون المصريون بدحض تلك الاتهامات، بأن حرس الحدود المصرى قادر على ضبطها، وبأن لا وجود لأى أنفاق، أو تهريب أسلحة أو متفجرات ومكوناتها، من الأراضى المصرية إلى قطاع غزة.. وحذرت مصر مما وصفته سعى إسرائيل لخلق شرعية لاحتلال ممر فيلادلفيا الحدودى، معتبرة أنه سيؤدى إلى تهديد خطير وجدى للعلاقات المشتركة.. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، قد عبر عن رغبته فى السيطرة على محور فيلادلفيا، عندما قال، إن «محور فيلادلفيا يجب أن يكون تحت سيطرتنا، ويجب إغلاقه.. وأى ترتيب آخر لن يضمن نزع السلاح الذى نسعى إليه»، واعتبرت القاهرة أى مساس بالمحور خطًا أحمر، وأنها قادرة على الدفاع عن مصالحها والسيادة على أرضها وحدودها.. صحيح، أن أراضى محور فيلادلفيا لا تقع ضمن السيادة المصرية، إلا أن سيطرة الجيش الإسرائيلى عليه بالكامل، يعد انتهاكًا لبنود اتفاقية السلام بين البلدين.
ورغم تعنت نتنياهو، فإن هناك مخاوف إسرائيلية من تعريض العلاقات مع مصر للخطر، فذلك يعنى أن تفقد تل أبيب وسيطًا متمرّسًا مهمًا، تحتاج إليه للتواصل مع حماس، ويعرف كيف يقرب وجهات النظر.. ومغامرة بعلاقات استراتيجية مع دولة مهمة مثل مصر، من أجل مصلحة نتنياهو السياسية، وقد يكون هذا الخلاف نقطة تحوّل فى الصراع الدائر، إذا غامر بعدم التنسيق مع مصر.. ويعتبر مساعد وزير الخارجية الأمريكى السابق لشئون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، أن «حرب غزة أدت إلى تآكل العلاقات المصرية- الإسرائيلية؛ فبعد سنوات من الدفء فى العلاقات، أدت الحرب إلى عودة العلاقات المصرية- الإسرائيلية إلى الحضيض.. لقد اعتادت إسرائيل «الإخلال بالاتفاقات»، ومصر هى الطرف الوحيد الحريص، حتى اللحظة، على بقاء العلاقات، حتى بعد احتلال محور فيلادلفيا والجانب الفلسطينى من معبر رفح.. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى، دانيال هاجارى، إن مصر دولة مهمة لإسرائيل، «ونعمل على ألا تتسبب عمليتنا المعقدة فى رفح إلى دفع المدنيين إلى التوجه نحو حدودها، فى وقت تتوتر فيه العلاقات بين البلدين، منذ بدء العملية العسكرية هناك، وسيطرة إسرائيل على المعبر الحدودى بين غزة ومصر».
تعتبر العلاقة الإسرائيلية- المصرية أحد أعمدة الأمن الإقليمى.. وأغلب دول المنطقة تدرك ذلك جيدًا، هذا ما يؤكده أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العبرية فى القدس، وعضو اللجنة المركزية لحزب العمل، مئير مصرى، الذى أوضح أن البلدين قد ضحيا بالكثير من أجل الحفاظ على تلك العلاقة مستقرة، على مدى ما يقارب النصف قرن، شهد خلاله الشرق الأوسط تقلبات وتحولات محورية.. والتراجع عن الخيار الإستراتيجى للسلام، لن يأتى لمصر ولإسرائيل على حد سواء إلا بالضرر الجسيم، نعم، كان «سلامًا باردًا» بين الشعوب، لكنه سلام ساخن بما فيه الكفاية بين المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية.. لذلك، فهناك حرص مشترك بين مصر وإسرائيل على معالجة الأزمات، من خلال لجنة الاتصال التى تقوم بهذا الدور، بعيدًا عن وسائل الإعلام والرأى العام والرسمى.
هددت مصر بتعليق التزاماتها بموجب معاهدة السلام مع إسرائيل، مما طرح تساؤلات، عما إذا كانت القاهرة قادرة على الإقدام على تلك الخطوة، فى ظل العمليات الإسرائيلية فى قطاع غزة، خصوصًا أن هذه العلاقة تثير حفيظة الرأى العام فى مصر.. ومع وصول العلاقات بين البلدين إلى حافة الهاوية، فإن لدى القاهرة مجموعة من المطالب التى يمكن أن تساعد فى نزع فتيل التوتر، أهمها، ضرورة الانسحاب من معبر رفح والسماح للفلسطينيين بإدارة المنطقة الحدودية، وضرورة تنسيق إسرائيل مع مصر بشأن الخطوات التالية ومرحلة ما بعد الصراع.. وقد نعتقد أن هناك مناقشات تدور فى إسرائيل، من أجل تعديل المعاهدة أو الاتفاقات اللاحقة مع مصر، وهذا أمر وارد من أجل الإبقاء على ثوابت هذه العلاقة، خصوصًا فى ظل حرص من الطرفين على عدم التصعيد، والدخول فى أزمات كبرى.. ورغم كل ذلك، يظل رئيس الوزراء الإسرائيلى، يبعث برسائل تنم عن سلوك مُغاير، قد يؤدى إلى المزيد من التوترات ويعرض معاهدة السلام للخطر.
فى نهاية المطاف، العلاقات بين الدول تحكمها مصالح استراتيجية ثابتة وبعيدة المدى، ولا تتحكم فيها الأهواء والعواطف.. وهناك تحديًا واجه مصر، فيما يتعلق بعلاقاتها مع إسرائيل والفلسطينيين، بسبب رفض إسرائيل الالتزام بحل الدولتين، وتمسكها بضرورة القضاء على حماس، خصوصًا أن مصر تسعى إلى ممارسة دور بناء، يعتمد على الحفاظ على مصداقيتها لدى الإسرائيليين والفلسطينيين، على السواء.. ومن مصلحة البلدين إبقاء القنوات مفتوحة لإدارة تداعيات الحرب فى غزة، فضلًا عن الضغوط الداخلية والدولية.. كما سيكون البلدان محورين فى خطط ما بعد الحرب، وسيتعين عليهما التوصل إلى ترتيب لإدارة الأمن على امتداد الحدود، بما فى ذلك معبر رفح والمنطقة العازلة فى ممر فيلادلفيا.. ولهذا، يُستبعد أن تؤثر الحرب على العلاقات الإسرائيلية- المصرية، لا سيما فى ظل التقارب الإسرائيلى- الخليجى، وتعاظم الخطر الإيرانى فى المنطقة.. ودائمًا ما حرصت مصر وإسرائيل على الحد من أى صدام مباشر، خصوصًا مع انخراط الولايات المتحدة فى هذا الأمر، باعتبارها شريك السلام.
■■ وبعد..
فإن بقاء حماس وخروج يحيى السنوار سليمًا، سيكون انتصارًا فلسطينيًا قد يشوه صورة إسرائيل فى العالم العربى، ويضر باتفاقيات السلام مع مصر والأردن، واتفاقيات التطبيع المقبلة مع الدول العربية، كما ترى صحيفة «يسرائيل هايوم»، محذرة من مغبة انهيار اتفاق السلام بين القاهرة وتل أبيب، فى وقت تقوم القاهرة بتسليح نفسها عسكريًا بكم هائل منذ فترة طويلة، كما لو كان هناك هجوم أجنبى فى الطريق.. منذ عام 1979، كانت مصر إحدى ركائز الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، تعمل وسيطًا فى عمليتى السلام الإسرائيلى- العربى، والإسرائيلى- الفلسطينى، وهى عامل استقرار لاتجاهات التطرف فى العالم العربى، ومن هنا فإن لواشنطن مصلحة حيوية فى الحفاظ على علاقاتها مع القاهرة.. إلا أنه من الضرورى فهم وجهة النظر المصرية، «فعلى الرغم من اتفاقية السلام مع إسرائيل، فإن مصر لا تزال تنظر إلينا كعامل تهديد»، هكذا تقول الصحيفة.. وفى القاهرة اختاروا «السلام البارد»، وقلصوا التطبيع إلى الصفر، وتجاهلوا تمامًا نظرة الجمهور المصرى السلبية لليهود بشكل عام وإسرائيل بشكل خاص، بحيث لا تزال مصر كمؤسسات ومعها جماهير الشعب، ترى فى إسرائيل خصمًا محتملًا، يجب بذل كل جهد ممكن للوصول إلى التكافؤ الاستراتيجى معها.. وشددت الصحيفة الإسرائيلية على أن «الدخول الإسرائيلى إلى رفح أقلق المصريين، بسبب الخوف من موجة اللاجئين التى قد تجتاح الجانب المصرى من المدينة، وأيضًا بسبب الخوف المصحوب بجنون العظمة، من أن تستغل إسرائيل الحرب وتغزو سيناء.. وإذا قمنا بتجميع الأمور معًا، فإن مصر لن تقبل ببقاء إسرائيل فى رفح وممر فيلادلفيا.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.