رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رجل الأنفاق.. رئيسًا لحماس

جاء اختيار حركة "حماس" للقيادي الميداني يحيى السنوار رئيسًا للمكتب السياسي للحركة، خلفًا لإسماعيل هنية، مفاجأة كبيرة في إسرائيل، وقد بدت الصدمة واضحة في تعابير الصحفيين والعسكريين الإسرائيليين، الذين بدوا وكأنهم قد خُدعوا جراء ذلك الخيار الذي ركنت إليه حماس.. ووصف محللون ومراقبون اختيار السنوار بأنه مفاجأة، متوقعين أن يلقي بظلاله على العديد من الملفات، على رأسها صفقة الهدنة في قطاع غزة، واعتبرو هذا الاختيار "رسالة موجهة لإسرائيل أولًا وأخيرًا"؛ لأنه إن أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن يتفاوض بعد ذلك، فعليه أن يتفاوض مع رجل يقيم تحت الأرض.. و"هذا رد على تعنت نتنياهو، الذي اغتال إسماعيل هنية، رغم المرونة التي قدمها الراحل بشكل كبير خلال المحادثات، إذ كان يطرح أفكارًا جديدة ويسعى للوصول إلى اتفاق"، وسيُعقِّد تعيين السنوار أي ملفات متعلقة بالتفاوض؛ إذ إن عملية الاتصال ذاتها معه أمر صعب، وحينما تحتاج لرسالة سيكون مطلوبًا الانتظار لعدة أيام، ومن ثم بات الأمر صعبًا على الوسطاء أنفسهم.. إذن، هي خطوة تعتبر مُتغيرًا جديدًا في مسار الحرب، "ستربك المشهد بأكمله؛ إذ ستسير الأمور بطريقة أصعب مما كانت عليه".. و"هذا ليس جيدًا لمساعي وقف إطلاق النار".
في إسرائيل، ورغم غياب الردود الرسمية بداية، إلا أن وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، دعا، في رد فعل مُتعجل، إلى "تصفية سريعة" للسنوار، باعتباره العقل المدبر لعملية "طوفان الأقصى"، التي أطلقتها المقاومة ضد الاحتلال في السابع من أكتوبر الماضي.. وهدد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بالعربية، أفيخاي أدرعي، باغتيال يحيى السنوار، قائلًا عبر منصة إكس: "هناك مكان واحد محفوظ ليحيى السنوار، بجوار محمد الضيف، ومروان عيسى، وباقي دواعش حماس المسئولين عن مجزرة السابع من أكتوبر، الذين قتلناهم".. ويؤكد المحلل السياسي الإسرائيلي، إيلي نيسان: "إن إسرائيل تتعامل مع السنوار على أنه حي ميت، وحين تأتي أول فرصة ستقضي عليه"، فإسرائيل تسعى، منذ بداية الحرب، لاستهدافه شخصيًا لمسئوليته المباشرة عن هجوم السابع من أكتوبر، ولا تكف عن البحث عنه داخل الأنفاق وفي قلب غزة ذاتها.
يوصف السنوار بأنه "رجل الأنفاق" في قطاع غزة، الذي يعيش داخلها منذ عشرة أشهر، حين اندلعت شرارة الحرب بين إسرائيل وحماس، كما بات على رأس الأهداف التي تسعى إسرائيل للوصول إليها منذ هجوم السابع من أكتوبر الماضي.. ويُنظر إلى السنوار، البالغ من العمر 61 عامًا، على أنه الرئيس الفعلي للحركة، وصاحب اليد العليا في اتخاذ قراراتها المتعلقة بالحرب والمفاوضات، وتُحاط تحركاته بسرية شديدة، إذ لم يُشاهد علنًا منذ اندلاع الحرب، رغم المحاولات الإسرائيلية المُكثفة لتتبع أثره، بل إنه بات مطلوبًا ومُدرجًا على قائمة "الإرهابيين الدوليين" الأمريكية، ويمثل ذلك مشكلة للحركة ذاتها، إذ إنه لن يستطيع التوجه خارج غزة، أو إقامة علاقات مع إيران وحلفائها، على سبيل المثال، كما ستكون هناك صعوبة في سعيه لجمع أموال للحركة.
الذين يظنون أنهم يعرفون السنوار جيدًا، قد لا يعرفونه إطلاقًا؛ إنه صندوق ملىء بالأسرار والخبايا، لغز كبير عصيّ، تُسابق أجهزة المخابرات الغربية الزمن للوصول إلى دليل أو معلومة عنه، ويبحث عنه جيش كامل فوق الأرض وتحت الأرض في غزة.. هذا هو الرجل الذي يوصف بأنه "أكبر خطأ في تاريخ إسرائيل"، مهندس عملية ("طوفان الأقصى"، الفلسطيني الذي يتحدث العبرية أفضل من إسرائيليين، ويزلزل تل أبيب وهو في الأنفاق، ومطلوب حيًا أو ميتًا منذ ثلاثمائة يوم.
في السجن، الذي قضى فيه نحو ثلاثة وعشرين عامًا، كشف يحيى السنوار، لمسئول إسرائيلي، النظرية التي يعتمد عليها حاليًا منذ عملية "طوفان الأقصى"، حسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.. فهو يرى "أن ما تعتبره إسرائيل نقطة قوة، وهي أن أغلب الإسرائيليين يخدمون في الجيش، هي نقطة ضعف صالحة للاستغلال في المواجهة مع الاحتلال".. وقال يوفال بيتون، رئيس سابق لشعبة الاستخبارات في السجون الإسرائيلية، الذي استجوب السنوار وقضى معه فترة من الوقت، إبان سجنه منذ 1988 حتى 2011، للصحيفة، إن السنوار، في عام 2004، "عانى من مشاكل عصبية، وكان يتحدث بشكل غير واضح ويعاني من صعوبة في المشي.. فحصه الأطباء ووجدوا ورمًا في الدماغ يهدد حياته، ونقلوه من سجن قريب من بئر السبع إلى مستشفى المدينة لإجراء عملية جراحية، وعاد إلى السجن وشكر الأطباء على إنقاذ حياته".. هذا الرجل النحيف، الذي كاد يموت في لحظة بسبب "خُراج"، يتحول إلى مُفاوض متشدد معهم، "لقد أراد إطلاق سراح أولئك الذين شاركوا في التفجيرات خلال الانتفاضة الثانية، التي قتلت أعدادًا كبيرة من الإسرائيليين".. ويرى مايكل كوبي، المحقق الذي استجوب السنوار أيضًا أثناء وجوده في السجن لأكثر من مائة ساعة: "إن إطلاق سراحه كان أسوأ خطأ في تاريخ إسرائيل".. ما يؤكد ذلك، أنه "بعد أسبوع من إطلاق سراحه عام 2011، قال السنوار لوكالة صفا برس، الفلسطينية، إن الخيار الأفضل لتحرير السجناء المتبقين في الداخل هو اختطاف المزيد من الجنود الإسرائيليين".
لقد درَس السنوار المجتمع الإسرائيلي لأكثر من عقدين داخل السجن، حيث تعلم اللغة العبرية وأجادها بطلاقة، وواظب على مشاهدة الأخبار المحلية ودراسة النفس الإسرائيلية، ثم أقدم على هجوم السابع من أكتوبر، بتكاليف باهظة بالفعل، بما في ذلك الدمار الذي اجتاح مساحات شاسعة من غزة ومقتل نحو أربعين ألف فلسطيني، بعد هجمات "طوفان الأقصى"، التي أسفرت عن مقتل ألف ومائتين إسرائيلي.. كانت قواعد اللعبة التي اتبعها السنوار، منذ أن أصبح زعيمًا لحركة حماس في غزة عام 2017، هي تذكير الإسرائيليين باستمرار بأنهم في صراع مع الفلسطينيين، وكانت الحركة في لحظة ما تنخرط بشكل بنَّاء مع إسرائيل، وفي اللحظة التالية تتبع وسائل عنيفة لتحقيق أهداف سياسية، ونظر بعض الإسرائيليين إلى نهجه في مفاوضات الرهائن على أنه محاولة لشن حرب نفسية.. فخلال مفاوضات الرهائن الأخيرة قطع السنوار اتصالاته مع الوسطاء؛ للضغط على إسرائيل للموافقة على وقف مؤقت، يمنح حماس الوقت لإعادة تجميع صفوفها، وعندما بدأ إطلاق سراح الرهائن، كان ذلك على دفعات يومية، وليس دفعة واحدة، ما خلق شعورًا يوميًا بالقلق في المجتمع الإسرائيلي.
يرى السنوار، وهو في أوائل الستينيات من عمره الآن، أن الحرب لن تنتهي بسرعة، كما انتهت جولات العنف الأخرى في غزة، ويمكن أن تستمر لسنوات، ما يشير إلى أنه يريد الضغط قدر استطاعته على إسرائيل مقابل بقية الرهائن، لأنه يُعدّ صانع القرار الرئيسي في حماس، باعتباره كان القائد السياسي الأعلى في غزة، والذي يعمل بشكل وثيق مع الجناح العسكري لحماس "كتائب عزالدين القسام".. وكان أحد أسباب شن حماس هجمات السابع من أكتوبر، هو اختطاف جنود لمقايضتهم بالسجناء الفلسطينيين، وفقًا لمحللين سياسيين فلسطينيين.
عندما جرى إطلاق سراح السنوار في صفقة التبادل عام 2011، اعتقد أنه كان ينبغي على حماس أن تضغط بقوة أكبر على إسرائيل لإطلاق سراح الفلسطينيين المسئولين عن التفجيرات التي قتلت إسرائيليين، والذين كانوا يقضون عدة أحكام بالسجن المؤبد.. ويرى جيرشون باسكن، ناشط السلام الإسرائيلي، الذي ساعد في التوسط في اتفاق عام 2011، أن السنوار، الذي يشن حربًا ضد إسرائيل بعد أكثر من عقد من إطلاق سراحه، يدرك أن إطلاق سراح السجناء الذين يقضون أحكامًا بالسجن مدى الحياة خطر على الإسرائيليين.
أمضى السنوار سنوات كعضو في حماس داخل السجن أكثر مما أمضى خارجه.. وكان قبل قضاء فترة العقوبة مقربًا من مؤسس الحركة، الشيخ أحمد ياسين، الذي جرى إطلاق سراحه عام 1985، في صفقة تبادل شملت أكثر من ألف محتجز مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين.. عمل السنوار مع ياسين لمطاردة المُخبرين الفلسطينيين المشتبه في تعاونهم مع إسرائيل، وكانت شرطة الأمن الداخلي، التي أنشأها السنوار، بمثابة مقدمة لكتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.
بعد الإفراج عنه في 2011، عاد السنوار إلى غزة مختلفًا تمامًا، إذ كانت حماس تحكم القطاع بعد أن انتزعت السيطرة عليه من السلطة الفلسطينية، ومارس مرة أخرى نفوذه داخل الحركة، وشارك في اعتقال وقتل مُخبرين فلسطينيين مشتبه بهم لصالح إسرائيل.. بعد ذلك، جرى التصويت بالموافقة على تسمية السنوار كزعيم لحركة حماس في غزة.. وقال مرة أخرى علنًا إن حماس ملتزمة بالإفراج عن كل أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية، ثم فاز بولاية ثانية كزعيم لحركة حماس في غزة عام 2021، وتعهد مجددًا بتحرير السجناء الفلسطينيين.. وفي مايو من ذلك العام، أطلقت حماس صواريخ على القدس المحتلة، ما أشعل صراعًا استمر إحدى عشر يومًا.. تلك الجولة من الصراع خلقت إحساسًا بين المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بأن السنوار لن يحاول الهجوم مجددًا، لأنه كان أكثر تركيزًا على بناء القطاع اقتصاديًا، لكن السابع من أكتوبر أظهر أن هذا غير صحيح.
أثبت الهجوم الخاطف الأولي في السابع من أكتوبر نجاحه بالنسبة لحماس، إلا أن السنوار ارتكب خطأين، الخطأ الأول أنه اعتقد أن ذلك الهجوم سيبدأ حربًا إقليمية تشمل إيران وحزب الله، والخطأ الثاني أن إسرائيل لن تغزو غزة لقتل قيادات حماس، كما قال عاموس جلعاد، مسئول الدفاع الإسرائيلي السابق، ولكن "ليس لدينا أي خيار سوى تدمير السنوار".. إلا أن اللافت هو أن المحقق مايكل كوبي، قال، لـ"وول ستريت جورنال"، إنه في وقت مبكر من عام 1989 "ذكر السنوار للمحقق أنه كان يخطط لإنشاء وحدات تقوم بمداهمات داخل إسرائيل لقتل واعتقال الناس"، وهو شيء يكاد يتطابق مع ما جرى في "طوفان الأقصى"، بعد ذلك التاريخ بأربعة وثلاثين عامًا.
■■ وبعد..
كان السنوار يرى أن صواريخ حماس على إسرائيل هي القدرة التي تدفع تل أبيب لإجراء محادثات معه، ولذا "فقد منحت إسرائيل، في السنوات الأخيرة، تنازلات لغزة، لم يكن من الممكن تصورها قبل بضع سنوات فقط، بما في ذلك المزيد من الدعم المالي القطري وآلاف تصاريح العمل الإسرائيلية للفلسطينيين"، إلا أن القراءة الخاطئة لشخصية السنوار كانت مقدمة لأكبر فشل استخباراتي لإسرائيل.. تمكن السنوار من خداعهم النهائي.. لم يفهموه على الإطلاق، ولم يدركوا أن صورة السنوار، التي قدمها العديد من الأشخاص الذين أمضوا وقتًا معه يمتد لعقود مضت، هي لرجل كاريزمي، قليل الكلمات، سريع المزاج، وقيادي الحضور، ترقى ليصبح زعيمًا لجميع سجناء حماس في السجون الإسرائيلية، وهو منصب مؤثر داخل التسلسل الهرمي للحركة.. حاول تقييم المخابرات الإسرائيلية للسنوار خلال فترة وجوده في السجن التقاط شخصيته، وعرَّفوها بأنها، "قاسية، موثوقة، مؤثرة، مقبولة من قبل أصدقائها، ولديها قدرات غير عادية على التحمل، ماكرة، راضية مع القليل، تحتفظ بالأسرار حتى داخل السجن بين السجناء الآخرين، لديها القدرة على حمل الحشود".
لقد أصبح السنوار شخصية أسطورية تقريبًا بالنسبة للفلسطينيين، لا سيما داخل غزة.. يشعر الكثير منهم بالفخر به، ويحظى هو بشعبية كبيرة في الشارع الفلسطيني.. لكن الفلسطينيين المعتدلين يفهمون أنه "أعادنا إلى العصر الحجري"، بسبب السابع من أكتوبر وما بعده.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.