رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقتل هنية يكشف صراع الظل فى إيران

دعونا نتفق أن إسماعيل هنية بكل تاريخه فى حركة حماس، لم يعد يشكل مرجعية كاملة للحرب فى غزة، ففصائل المقاومة على الأرض أصبحت تقود المعركة بشكل أكثر انفصالية عن المفاوضات السياسية، وليست مجرد تابع منفذ للأوامر، وبالتالى لن يشكل اغتياله مفصلية هامة فى تغير أحداث الحرب، خاصة لإسرائيل، التى قدمت هنية ككبش فداء شعبى، يحاول نتنياهو من خلاله إثبات سطوته العسكرية والسياسية على الداخل الإسرائيلى. فما يحمله إسماعيل هنية من رمزية سياسية هو الأهم بالنسبة لإسرائيل، وليس دوره الفعلى فى أرض المعركة، وباغتياله سيتوقف ملف المفاوضات الذى يرفضه اليمين المتطرف فى إسرائيل، وسيضمن استمرار المعركة، بل وقد يفتح جبهات إقليمية أخرى تضمن لنتنياهو البقاء، والدعم من الولايات المتحدة تحديدًا، فنتنياهو يمهد الأرض لقدوم ممثل الحزب الجمهورى، ترامب، الذى أعلن دعمه الكامل لإسرائيل ضد حماس من جانب ويحمل موقفًا سلبيًا ضد إيران فى العمق، على النقيض من الأيادى المرتعشة لحكومة بايدن، الرئيس الحالى والمرشح المنسحب من المنافسة الانتخابية فى نوفمبر المقبل.

الانعكاس الأهم لعملية الاغتيال كان على النظام الإيرانى، الذى تعامل مع الموقف بارتباك شديد، رغم ما يبدو عليه الأمر على المستوى الإعلامى، والمعلن من الخطاب السياسى، فإسماعيل هنية هو صاحب ملف عودة العلاقات الحمساوية مع طهران بشكل أكثر فاعلية، بداية من عام 2006، بعد انتخابه فى قطاع غزة، بعد فترة جمود مرت بها العلاقات الإيرانية الحمساوية، ومنذ ذلك الحين زار هنية إيران سبع مرات، قابل خلالها جميعًا المرشد الأعلى «على خامنئى»، وازدادت العلاقات بين الطرفين بشكل أكثر قوة بعد السابع من أكتوبر، وتعقد ملف غزة، والدعم الإيرانى المعلن لمحور المقاومة بشكل عام، وصولًا للصدام الإيرانى الإسرائيلى المباشر فى أبريل الماضى. فإسماعيل هنية له قيمته السياسية داخل النظام الإيراني، على تعاقب الرؤساء والمسئولين على الساحة السياسية، فهو الضامن الأهم للتواجد الإيرانى فى فلسطين، فى مرحلة تاريخية شديدة التعقيد. وشكّل اغتياله إحراجًا حقيقيًا للنظام فى الداخل والخارج، وكشف العديد من الأزمات والصراعات، سنحاول أن نجملها فى نقاط محددة:

السياسة التوسعية للنظام سبب الثغرات الأمنية:

بعيدًا عن الطريقة التى تمت بها عملية الاغتيال، سواء بقنبلة مزروعة داخل غرفة هنية فى مبنى المحاربين القدامى فى شمال طهران، حسب الرواية الأمريكية- الإسرائيلية، أو صاروخ اخترق الحدود الإيرانية وصولًا لجسد هنية، أو من مبنى مجاور للبناية التى أقام فيها هنية وغيره من فصائل المقاومة الفلسطينية، حسب الرواية الإيرانية المتضاربة بالمناسبة والتى لم تخرج بعد بشكل رسمى- إلا أن الأمر برمته كله يعكس الفشل الأمنى الذى تعانى منه أجهزة الاستخبارات فى إيران على اختلافها وتعددها، فالنظام الإيرانى يملك العديد من الأجهزة الاستخباراتية المعقدة، سواء التابعة لمنظومة الحرس الثورى أو القوات المسلحة، واضعين فى الاعتبار أن تأمين إسماعيل هنية والوفد المرافق له كان من اختصاص الحرس الثورى. مما أثار العديد من علامات الاستفهام داخل الحياة السياسية فى إيران، خاصة داخل مجلس الشورى «البرلمان» الذى أصدر عددٌ من نوابه بيانات تطالب بفتح تحقيق موسع فى مستوى الأجهزة الأمنية وقدرتها الفعلية على أرض الواقع والميزانيات المفتوحة التى تحظى بها العديد من القطاعات الأمنية خاصة التابعة للحرس الثورى. وقد أشارت العديد من التقارير الصحفية خاصة الأميل للتيار الإصلاحى، إلى وجود العديد من الثغرات الأمنية فى إيران، التى تستغلها إسرائيل منذ سنوات عدة فى مختلف عمليات الاغتيال التى تمت لقادة وعلماء إيرانيين، ولن تكون عملية اغتيال هنية هى الأخيرة. وقد أرجع بعض المحللين أن رغبة النظام الإيرانى التوسعية وسياسة مد الأذرع التى تنتهجها إيران هى السبب فى ضعف وتشتيت المؤسسات الأمنية الإيرانية، فمحاولات إيران الدائمة منذ بداية الثورة الإيرانية، أن تصنع لها حلفاء إقليميين سواء فى سوريا أو اليمن أو لبنان وصولًا لجارتها العراق، لتشكل ضغطًا على مختلف دول المنطقة، وكذلك تهديد المصالح الغربية- الأمريكية، قد تكون هى السبب الأهم فى عدم قدرة الأجهزة الأمنية على التركيز داخليًا وفرض حماية كافية داخل حدود الدولة.

السيطرة على الرئيس الإصلاحى الجديد:

رغم فوز مسعود بزشكيان فى الانتخابات الرئاسية الإيرانية بنسبة تقترب من 53%، وبمشاركة تتجاوز الـ50% حسب التصريحات الرسمية، إلا أن التيار الأصولى فى الداخل ما زال يشكل الثقل الأهم والأقوى فى الحياة السياسية الإيرانية، فسيطرة التيار المتشدد على مجلسى الشورى والخبراء، وظهوره بشكل قوى فى المنافسة الانتخابية الأخيرة بدعمهم للمرشح الأصولى «سعيد جليلى»، خاصة المتشددين داخل الحرس الثورى والباسيج «قوات التعبئة»، وداخل الحوزة الدينية، تشكل عبئًا حقيقيًا على كاهل الرئيس الجديد المنتمى نسبيًا لتيار الاعتدال، بل قد تشكل عائقًا قويًا فى تنفيذ خطته الإصلاحية، رغم الدعم الذى قدمه الرئيسان الأسبقان لحملته الانتخابية حسن روحانى ومحمد خاتمى، الذى عاد بعد ثبات سياسى دام لسنوات «خاصة بعد أزمة الحركة الخضراء فى إيران التى تلت انتخابات أحمدى نجاد 2009»، ليقدم كل خبرته لمسعود بزشكيان، ويُحمله تاريخ الحركة الإصلاحية كاملة. وكذلك انضمام السياسى الأهم جواد ظريف وزير الخارجية اللامع والمفاوض النووى فى عهد حسن روحانى. إلا أن التيار الأصولى لديه حساسية شديدة تجاه كل تلك الأسماء السابقة، بل يعتبرهم البعض عملاء للولايات المتحدة، وليس لديهم انتماء حقيقى لنظام الجمهورية الإسلامية.

جاء اغتيال هنية فى توقيت يبدو مناسبًا للغاية للتيار الأصولى الذى تقلقه عودة التيار الإصلاحى أو الاعتدال، متمثلًا فى مسعود بزشكيان الذى مثل انتخابه البوابة الملكية لخروج كل من يعارض أصولية الدولة، ففى اليوم التالى لحفل تنصيبه يستفيق الرئيس الجديد المحمل بالعديد من الطموحات السياسية على خبر اغتيال هنية فى محل إقامته فى أطراف طهران، ليجد نفسه مضطرًا لمجاراة كل ما يحدث من صراخ إعلامى وتصريحات سياسية ساخنة وشعبوية فى المقام الأول، فقد كانت لديه خطته المختلفة تمامًا عن مفصلية مقتل هنية، فقد كان من المفترض أن ينتهى يوم تنصيبه بسلام وتأمين كامل، فالدولة بأكملها تحتفى برئيسها الجديد، ورغم أنه يعلم جيدًا أن خطته فى العديد من الملفات سوف تواجه بصراعات قوية ضد التيار المتشدد أو الأصولى، خاصة ملف تحسين العلاقات مع الغرب وملف الحريات المجتمعية، خاصة قانون الحجاب الإجبارى «الذى شكل جزءًا أصيلًا من حملته الانتخابية»، وقانون حجب الإنترنت، والأهم السعى إلى رفع العقوبات وتحسين الوضع الاقتصادى، وغيرهم الكثير من الوعود، إلا أن اغتيال هنية وضعه مباشرة ومنذ اليوم الأول له كرئيس جمهورية فى وجه «مدافع آيات الله»، فكل التصريحات التى خرجت من الحرس الثورى وقيادة أركان القوات المسلحة، وحتى مرشد الثورة الإيرانية، التى تهاجم إسرائيل وأمريكا، والتى قد تُورط الدولة الإيرانية فى مصادمات عسكرية مع الكيان الصهيونى، وكذلك المصالح الأمريكية فى المنطقة، قد تُنهى مشروع بزشكيان الإصلاحى قبل أن يبدأ، وموقف بزشكيان التصالحى مع الغرب بشكل عام، خاصة وأن وقت وصول ترامب أوشك على النفاذ، ولم يكن أمام إيران إلا إلى شهر نوفمبر مع حكومة بايدن لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة ولو بشكل مؤقت، كما يمنح فرصة لمغامرى الحرس الثورى والتيار المتشدد أن يمسك بزمام الأمور فى تلك المفصلية الهامة، ويعود ببزشكيان إلى مجرد دور الرئيس الموظف، وليس المتبنى المشروع الإصلاحى فى سياسته التى ماتت فى مهدها.

وعلينا أن ندرك فى الخلفية أن بزشكيان ليس له تاريخ سياسى كبير، ولا يملك ظهيرًا شعبيًا يُعتمد عليه، كغيره من رموز تيار الاعتدال كخاتمى أو روحانى، بل أن العديد من ممثلى التيار الإصلاحى بشكلهم الأكثر حدة، لا يعتبرون بزشكيان إصلاحيًا من الأساس، فكل تاريخه فى الحياة السياسية الإيرانية، كونه عضوًا برلمانيًا عن محافظة أذربيجان، وشغل منصب وزير الصحة فى حكومة روحانى بوصفه طبيبًا، مع بعض مناوشات سياسية فى عهد أحمدى نجاد داخل قبة البرلمان، وبالتالى كل ما يملكه سياسيًا دعم رموز الإصلاحيين وعلى رأسهم جواد ظريف، الذى هندس له حملته الانتخابية كاملة، وحينما أراد بزشكيان أن يمنحه مكافأة تليق بخداماته، بتعيينه نائبًا لرئيس الجمهورية للشئون الاستراتيجية، واجه انتقادًا شديدًا من بعض أعضاء البرلمان، وممثلى التيار الأصولي، الذين اعتبروا تعيين جواد ظريف، صاحب الميول الغربية، محاولة للتودد إلى الغرب، فى ظل اختراق إسرائيل الحدود الإيرانية واغتيال حليف إيران إسماعيل هنية، وأوصل بعضهم أن بزشكيان نفسه يمثل تيار العمالة للغرب، وليس تيار الإصلاح كما يدعى.
 

إيران ترفع أعلام الحسين الحمراء للانتقام:

فى ظاهرة لم تتكرر إلا فى حادثة اغتيال «قاسم سليمانى»، قائد فيلق القدس الذى اُغتيل على يد الولايات المتحدة، تم رفع الأعلام الحمراء المكتوب عليها «يالثارات الحسين» على مسجد «جمكران»، وهو مسجد مقدس فى مدينة قم، تدعى الأدبيات الشيعية أن المهدى المنتظر قد ظهر على أرضه أثناء غيبته الصغرى ليبلغ تعاليمه لأوصيائه، قبل أن يختفى فى غيبته الكبرى. فى محاولة متكررة من النظام الإيرانى أن يدمج بين الدينى والمذهبى والسياسى فى فكرة واحدة، فقد حول اغتيال إسماعيل هنية من مجرد حدث سياسى إلى قضية مذهبية تستدعى التكاتف الشعبى على اختلاف التوجهات والأهداف.

فالنظام الإيرانى  يحاول أن يتعامل بسياسة حفظ ماء الوجه أمام العنجهية الإسرائيلية، خاصة بعد ما حققه الكيان الصهيونى من العديد من الاختراقات الأمنية داخل إيران، مما وضع الدولة الإيرانية فى حالة حرج شديد، فى الوقت الذى تقدم نفسها بوصفها الدولة الأكثر قوة ونفوذًا، صاحبة الأذرع العسكرية والسياسية الأشد حولًا. ولكن فى نفس التوقيت يسعى النظام فى إيران إلى الحفاظ على التوازن الداخلى بشكل واضح، فأى مغامرة عسكرية غير محسوبة قد تدخل المجتمع الإيرانى إلى غياهب فشل اقتصادى عظيم لا مخرج منه، قد يؤدى إلى انهيار نظام ولاية الفقيه بأكمله حال التمرد الشعبى إن وُضع تحت ضغوط الاحتياج الحقيقى.

فخرجت تصريحات النظام مهددة لإسرائيل، والتى استفادت بطبيعة الحال من اللهجة العدائية الإيرانية، لتحصل على مكاسب كبيرة من الولايات المتحدة، وتحمل مسئولية حمايتها كاملة، فإسرائيل تحاول دائمًا الحفاظ على عدائية النظام الإيرانى، لتحتفظ بمكاسب سياسية داخليًا وخارجيًا على المدى البعيد.

ولكن يظل بعض صقور النظام فى إيران من ممثلى الفكر الأكثر أصولية ومغامرة، والذين سيطروا على العديد من مفاصل الدولة الإيرانية، خاصة قيادات الحرس الثورى، وبعض قيادات القوات المسلحة، على أهبة الاستعداد أن يخوضوا مغامرة غير مأمونة العواقب للحفاظ على شعبيتهم وحضورهم العسكرى ونفوذهم السياسى، وقد يشكلوا ضغطًا على رأس الدولة، المتمثل فى المرشد على خامنئى، الذى يعانى من تدهور كبير فى حالته الصحية، والذى قد تنتهى صلاحيته السياسية والدينية فى القريب العاجل، إن صحت بعض التوقعات. وبالفعل تم اكتشاف العديد من العربات المحملة بأسلحة نوعية متجهة داخل الأراضى السورية، كما تم توجيه ضربات من حزب الله فى جنوب لبنان إلى شمال إسرائيل، مع التصريحات القوية من الحوثى فى اليمن، ودعم الفصائل فى العراق، خاصة بعد اجتماع قيادات الحرس الثورى مع قيادات محور المقاومة فى الداخل الإيرانى، مما ينذر باحتمالية أن تتحول المنطقة إلى حرب بالوكالة بين إيران والكيان الصهيونى، واضعين فى الاعتبار عدم وجود حدود مشتركة بين إيران وإسرائيل، وبالتالى ستعتمد إيران على حرب الصواريخ أو المسيرات التى ستنطلق من عناصر محور المقاومة، خاصة الحوثيين أو حزب الله، لتصل إلى العمق الإسرائيلى، رغم تقديرى الشخصى أن تلك الضربات لن تتسبب فى خسائر حقيقية للكيان، لكن قد تكون بداية إشعال المنطقة مجتمعة.

إيران تعانى الآن من اختراقات أمنية شديدة التعقيد، وتسرب بعض الأخبار عن القبض على بعض العناصر الإيرانية المتورطة فى حادثة اغتيال هنية، كما تعانى من خلافات داخلية شديدة الوطأة بين مختلف الأجنحة السياسية فى الداخل، خاصة ونحن أمام حالة من الاستقطاب الشعبى ظهرت بوضوح فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتى تمت إدارتها شعبيًا من مبدأ «ليس حبًا فى على ولكن كرهًا لمعاوية»، فقد تؤدى تلك الأسباب مجتمعة إلى فقدان النظام الإيرانى البوصلة السياسية التى يحافظ بها على توازنه الداخلى والخارجى، ويتورط فى خطأ حسابى يورط المنطقة بأكلمها فى أزمة لن تنتهى، خاصة فى ظل وجود نظام نتنياهو الذى يسعى إلى مد أمد وجوده وإن كان على حساب حرب إقليمية مدمرة.