رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة فى تاريخ فلسطين: مظلومية السبى «2»

فى مشهد يمتلئ بالعواطف الجياشة يصف كاتب سفر المزامير حال جماعة اليهود، الذين تم سبيهم إلى بابل على يد نبوخذ نصر عام ٥٨٧ ق.م، وهم يجلسون على ضفاف نهرى دجلة والفرات، يبكون رحيلهم عن الأرض وقد جلس معهم بعض سكان بابل يتسامرون، ويطلبون منهم أن يتغنوا لهم بأغنيات من أرض صهيون فيقول الكاتب: «عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ جَلَسْنَا، وبَكَيْنَا عِنْدَمَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ. فهُنَاكَ سَأَلَنَا الَّذِينَ سَبَوْنَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ، سألنا مُعَذِّبُونَا فَرَحًا قَائِلِينَ: رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ». «مز ١٣٧». وبعيدًا عن أن كاتب السفر قد وصف جماعة البابليين الذين كانوا يتسامرون معهم بأنهم من «الذين سَبَوْنا»، و«مُعذِّبونا» دون أن يفرق بين السلطة الحاكمة التى سبتهم، وبين جماعة من شعب بابل تتسامر معهم بود ولطف وتريد أن تتعرف على ثقافتهم وأغانيهم، فقد جاء رد كاتب السفر صاعقًا معبرًا عن الحالة الفكرية التى تكونت فى فترة السبى، وظلت ملازمة للفكر اليهودى على مدار تاريخه، فقد قال مستنكرًا: «كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِى أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟»، ثم أطلق ذلك الدعاء، الذى صار صلاة يتعبد بها اليهودى كلما غادر أورشليم «إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِى! لِيَلْتَصِقْ لِسَانِى بِحَنَكِى إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ، وإِنْ لَمْ أُفَضِّلْك يا أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ أفَرَاحِى!» 

إن دراسة فترة السبى البابلى لهى مدخل هام جدًا لفهم الكثير من جذور الصراع الحالى الذى تمت فيه ترقية بعض «المفاهيم القومية» لجماعة من البشر تعرضوا للسبى فى مرحلة من مراحل التاريخ، إلى «عقيدة دينية» تتوارثها الأجيال، ففى ظل هذه الحقبة نشأت المدارس اليهودية، مثل «بيت مدراش» و«بيت الكنيست»، والتى ساهمت بشكل كبير فى تشكيل الديانة اليهودية وإعادة كتابة التوراة وسائر التشريعات اليهودية، بما يتناسب مع تشكيل «الهوية اليهودية الجديدة» وحماية ما تبقى منها من الذوبان فى المجتمع البابلى، وقبل أن نخوض فى تلك التفاصيل، دعونا نستعرض الوضع السياسى لمنطقة الشرق الأوسط قبيل السبى البابلى مباشرة، فمع سقوط الإمبراطورية الآشورية وتخريب عاصمتها نينوى عام ٦١٢ ق.م، أصبحت القوى الفاعلة فى الشرق الأوسط دولتين فقط، هما الدولة الكلدانية البابلية، التى ورثت الدولة الآشورية فى سوريا والعراق، والدولة المصرية، التى كانت تحكمها الأسرة السادسة والعشرون بقيادة فرعون مصرى قوى هو نخاو الثانى، الذى قاد حملات عسكرية عديدة على الشام وآسيا؛ لتوطيد حكمه ووقف الزحف البابلى نحو الغرب، استمرت المناوشات بين البابليين والمصريين لعقود، كانت «أورشليم» خلالها خاضعة للنفوذ المصرى سياسيًا، وإن كانت تتمتع بحكم ذاتى يهودى، بقيادة الملك اليهودى «يهوياقيم»، الذى كان ضعيفًا فاسدًا من وجهة نظر المتدينين اليهود، وعلى رأسهم النبى أرميا، الذى كان يبشر دومًا بسقوط مريع لملك يهوذا الفاسد على يد البابليين، حتى اتهمه الملك، والشعب اليهودى، بأنه عميل البابليين فى يهوذا!

استغل «نبوخذ نصر» وريث العرش البابلى حالة الضعف التى حلت بالدولة المصرية بعد أن طعن الفرعون المصرى «نخاو الثانى» فى السن، وجرد حملة كبيرة مفاجئة على الشام وحدود مصر الشرقية، استولى فيها على جميع المدن الخاضعة للنفوذ المصرى ومن بينها أورشليم، ولم يستطع الفرعون المصرى وقف الزحف البابلى إلا عند حدود مدينة رفح المصرية، وبهذا أصبحت المنطقة من الفرات حتى حدود الدولة المصرية خاضعة للدولة البابلية. 

والحقيقة أنه لا يوجد مصدر تاريخى واحد يخبرنا بتفاصيل ما وقع فى تلك الحملة عمومًا، باستثناء نص بابلى وحيد يعود إلى حقبة نبوخذ نصر يقول «وفـى السـنة الثانيـة وفــى شــهر آيــار (مايــو) أعد ملــك (أكــد) جيشــًا قويــًا وســار به إلى أرض حاتــى»، والمقصود بها منطقة فلسطين الحالية. ولكن تنفرد التوراة كمصدر وحيد بالحديث عما وقع فى أورشليم فى تلك الحملة. فبعد أن حاصر نبوخذ نصر المدينة، مات ملكها وطرحت جثته خارج أسوارها، وتحققت فيه نبوءة أرميا، الذى بشره بأنه «سيموت موت حمار»، وبعد أن استسلم ملك اليهود الجديد قام نبوخذ نصر بحرق المدينة وتدمير الهيكل والاستيلاء على خزائنه، كما قام بـ«سبى» عدة آلاف من علية القوم إلى بابل، وترك شعبًا من الفقراء والمساكين وراءه فى أورشليم. وهنا نتوقف عند كلمة «التهجير» أو «السبى»، وهى الكلمة التى يراها بعض المؤرخين غير دقيقة، وأن بها الكثير من التضخيم، فالأمر لا يعدو مجرد القبض على عدة آلاف من الأسرى من الشعب المنهزم وسوقها إلى بابل؛ انتشاء بالنصر من ناحية ولمنع التمرد من ناحية أخرى، وهو أمر شائع الحدوث فى حروب تلك الحقبة، وقد تعرض اليهود أنفسهم لسبى سابق على يد «سنحاريب» ملك آشور، حينما أسر عدة آلاف من مملكة إسرائيل الشمالية إلى نينوى. ويرى المؤرخ اليهودى «إ. فنكلشتاين» أن الأعداد التى ذكرتها التوراة كضحايا للسبى البابلى بها مبالغة كبيرة، فضلًا عن أنها لا تقتصر على اليهود فحسب، فقد شملت كل الشعوب التى استولى نبوخذ نصر على مدنها، ومنهم كنعانيون وحيثيون، وفينيقيون، وغيرهم. أما الدكتور عبدالوهاب المسيرى، فيرى أن كلمة «سبى» تعطى انطباعًا ذهنيًا خاطئًا، لا يلائم الحالة التى كان عليها اليهود فى بابل، فقد كانوا يتمتعون بحرية كبيرة فى ممارسة شعائرهم الدينية، وكان يعيشون فى تجمعات واحدة وليس أحياء متفرقة أو جماعات مشتتة، والدليل الأكبر على أن كلمة السبى قد استخدمت لترسيخ صورة ذهنية توحى بـ«المظلومية»، أن الكثير من اليهود رفضوا العودة إلى أورشليم بعد استصدار مرسوم «كورش» بعودة الأسرى اليهود من بابل، وهو ما ينفى صفة المنفيين المعذبين عنهم، ومهما يكن من شىء فإن مساحة الحرية التى أعطيت ليهود المهجر فى بابل قد سمحت لهم بإعادة ترتيب الصفوف وظهرت نخبة فكرية عملت على التأسيس للقومية اليهودية ووضع أسس جديدة للديانة اليهودية، وهو ما عبر عنه ويلز بقوله «ذهبـوا إلى بابل همجـًا وعـادوا منها متمدنيـن، خرجوا جمهـورًا مخلطًا منقسـمًا علـى نفسـه لا يرتبـط بوعـى ذاتـى وطنـى، وعـادوا بـروح قوميـة شـديدة وجنـوح إلى الاعتـزال، ذهبوا لا يمتلكون كتابًا مشتركًا يتفقون عليه، وعادوا ومعهم العهد القديم وشروح التوراة!»

أما كيفية قيام النخبة الفكرية بتغيير ذلك الواقع والاستفادة منه فهو ما سنعرفه فى المقال المقبل بمشيئة الله. 

وللحديث بقية