فى غير موسم التوت
كانت الساعة قد اقتربت من الواحدة بعد منتصف الليل، لم أشأ أن أوقظ آدم ابنى فى هذا الوقت المتأخر لمثل هذه المهمة الشاقة.
قلت: أترك الأمر للصباح، وساعات الانتظار الباقية قد تكون فرصة مناسبة لأمارس حزنى بقدر من الحرية.
أنظر إلى أوراق الشجر الجافة المتناثرة فى حديقة بيتى التى ذبلت فى أيام قليلة.
يا ربى! منذ عدة ليلات كانت الحال مختلفة تمامًا.
هنا كنت أنا وزوجى وابنى نشاكس الليل بالضحكات، والحكايات التى لا تنام، والحب. لكم تناثرت حولنا ثرثرات مطليات بالفرح والبهجة والنسائم.
هنا كانت احتفالاتنا، أتذكر يوم عيد ميلاد ابنى آدم، الذى أهداه فيه زوجى جروًا بُنيًا جميلًا أسميناه كراميل.
كنا ثلاثتنا سعداء به، والسماء المرصعة بالنجوم تشدو بين الليل والشجر. كان كراميل صغيرًا مرتبكًا وخائفًا، وآدم يحاول اجتذابه للعب معه.
هنا كان آدم يجلس يتناول فطوره على الأرض بجوار كراميل، الذى يظل ينبح حتى أجلس معهما نفترش الأرض نأكل ونلعب، يغنى له آدم: كروم الشطور، كروم الأمُّور. أتذكر يوم تطعيم كراميل الأول، يومها ذهبت أنا وآدم وزوجى كأنه ابننا الأصغر، وحين عدنا ظل زوجى يراقب درجة حرارته، وأى تغيير يطرأ عليه حَذِرًا وخائفًا.
أحببناه وأحبَّنا، كان كراميل روحًا طيبة تخللت بعمق ومحبة أرواحنا.
بعد رحيل زوجى المفاجئ والمفجع منذ أيام، وحين عدنا أنا وآدم إلى البيت بدونه، من يومها توقف كراميل عن الأكل تمامًا. ظل يدور خلف ذيله نابحًا ثم دخل بيته الخشبى أمام شجرة الكافور وظل ساكنًا تمامًا، عيناه ثابتتان على باب البيت.
ظل هكذا مستسلمًا، شاردًا، حتى مات أمامى منذ دقائق.
أنظر إليه، تفيض دموعى ساخنة على خدى. لا أصدق أن كراميل الصغير مات وفاءً.
أتطلع إلى السماء الغارقة فى السكون الحزين. أناجى الله، أدعو بالمغفرة لزوجى، أغمض عينىَّ، ثم أواصل النظر إلى جسد كراميل.
مع ضوء الفجر رأيت آدم قادمًا من البيت نحوى فى الحديقة، وما إن شاهدنا حتى تساقطت دموعه متتابعات بقوة وبلا توقف.
كان ابنى يبكى أباه وجروَه ويُتْمَنا وذبول حديقتنا والعاصفةَ التى هبَّت فجأة على عُشنا الذى لم يمر عليه الحزن إلا منذ أيام قليلة.
أمام شجرة الكافور وقف ابنى يبحث بعينيه عن مكان مناسب لدفن جروه،
حاولتُ القيام لمساعدته، فلم أقوَ.
اكتفيت بتأمله وهو يؤدى عمله بثبات رجل كبير، نظر إلى عمق الحفرة؛ ليتأكد أنها كافية لصديقه.
وضع يده بها يساوى التراب، صبَّ قليلًا من الماء ثم حمل جروه، هدهده، همس له بكلمات، مر بوجهه على الجرو، ثم أنزله وأهال عليه التراب.
سالت دموعنا بهدوء. قبَّلت رأس ابنى، وأنا أقول له: أحبابنا لا يموتون، هم يتوارون فقط، يراقبوننا من بعيد ويبتسمون لنا بحب.
مال آدم برأسه على صدرى. شعرنا- كلانا- بسَكِينة تامة قادتنا إلى النوم فى الحديقة.
نمنا ساعات تحت شمس صباح فناء بيتنا.
ظلَلْنا بعد ذلك أيامًا نمارس طقسنا المسائى، نجلس حول الحفرة نهمس بذكرياتنا مع أبيه ومع كراميل، أو نواصل الصمت الذى صار حولنا من كل جانب.
ليالٍ مرت وأنا أسمع صوت بكاء ابنى فى حجرته ولا أملك إلا الدعاء والأمل أن تمر تلك المحنة.
بعد عدة أيام جاءنى صوت آدم عبر الهاتف فى عملى، راجيًا أن أترك كل ما فى يدى وأعود إلى البيت فورًا.
عدتُ لأرى صغيرى المدهوش يجذبنى من يدى بقوة، أنفاسه عالية وعلى وجهه ذهول سعيد.
أمام شجرة الكافور آدم يشير إلى مقبرة جروه، وقد نمت عليها شجيرة توت خضراء فى غير موسم التوت.
تلك الشجرة التى ظلت تعانقنى كلما أسندت ظهرى إليها، وظلت تفوح وتستأنف معى الأحاديث الحميمة المؤجلة.