رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرب بسيف التاريخ

يُعرَّف التاريخ دائمًا بأنه أحداث الماضى، وفى القرن التاسع عشر كان هناك مَن يرى أن التاريخ ليس هو الماضى، بل هو كابوس على رءوس الأحياء. من هنا عرفت البشرية، للأسف الشديد، الكثير من الحروب الدامية، لعل أشهرها الحروب العالمية، بالقطع لأسباب تنافسية استعمارية لكنها تلفحت بعباءة التاريخ.

من هنا أدرك العالم المتمدن مدى أهمية دراسة التاريخ، لاستخلاص العِبر، وتجنب تكرار أخطاء الماضى، وهو ما يسمى «تجاوز التاريخ» أى فهم التاريخ وتجاوزه للعبور إلى المستقبل، وبالتالى يتحول التاريخ إلى دراسة أكاديمية، وليس سجالًا يوميًا، وذريعة لحروب جديدة تدمر البشرية.

ولكنى أزعم أننا فى عالمنا العربى، وللأسف الشديد، ما زلنا نعيش فى كهف التاريخ، ما زلنا أسرى الماضى، وكل جماعة وكل حزب، بل ربما كل فرد مع تطور وسائل التواصل الاجتماعى، صنعوا لهم تاريخًا خاصًا، أى رسموا صورة خاصة للماضى، وحاولوا فرض هذه الصورة على الآخرين. وأتذكر هنا نهاية السبعينيات وبدايات الثمانينيات، عندما اشتعل الجدل حول ثورة يوليو: ثورة أم انقلاب؟ طفرة أم اقتطاع فى التاريخ المصرى؟ فى ذلك الوقت صك الصديق العزيز أحمد عبدالله مصطلحًا مهمًا فى هذا الشأن هو «المتحاربون بسيوف التاريخ»، ونظم أحمد عبدالله ندوة موسعة حول هذا الجدل، شاركت فيها أطياف عدة من الوسط التاريخى والثقافى، وبالقطع الوسط السياسى. ولا أعتقد أن هذه الندوة استطاعت الوصول إلى نقطة وسط فى هذا الجدل، بل ازدادت الهوة اتساعًا، وتوهم كل طرف تاريخًا خاصًا به، لذلك أصر أحمد عبدالله، عندما نشر كتاب الندوة بعد ذلك، على الإشارة لهذه الظاهرة الخطيرة «الحرب بسيف التاريخ» عنوانًا لبحثه فى هذا الكتاب.

وأتذكر أنه سبق هذه الندوة، لا سيما فى نهايات السبعينيات، محاولة من جانب الرئيس السادات لمعالجة هذه الظاهرة؛ إذ قام بتشكيل لجنة حكومية لكتابة تاريخ ثورة يوليو، وترأس هذه اللجنة نائب الرئيس آنذاك حسنى مبارك، وأدى ذلك إلى محاولة صناعة تاريخ رسمى لثورة يوليو. ومع اغتيال السادات جُمِدَت أعمال اللجنة. وأتذكر أنى قابلت المرحوم الدكتور صبحى عبدالحكيم، الرجل الثانى فى هذه اللجنة، وسألته عن مخرجات هذه اللجنة، وأين ذهبت وثائقها، والتسجيلات الشفوية التى أُجريت مع شهود ثورة يوليو؟ وقال لى إنه تم تسليم كل ذلك للجهات المختصة، ولا يعرف شيئًا عما آلت إليه الأمور بعد ذلك.

تداعى إلى ذهنى كل هذه الذكريات، وأنا أتابع «السيرك السنوى» المعتاد على صفحات التواصل الاجتماعى مع حلول شهر يوليو كل عام، والحرب بسيف التاريخ حول يوليو وما قبلها، وزاد الأمر فى السنوات الأخيرة بالجدل حول يوليو وما قبلها وما بعدها، وفى رأيى أن هذه الظاهرة ليست صحية على الإطلاق؛ إذ صنع كل طرف تاريخًا خاصًا به، لكن الأسوأ محاولة فرض هذا التاريخ على الآخر، والسخرية من تصورات التاريخ عند الآخر، وتحول كل فرد منا إلى مؤرخ، أو هكذا ظن. وانصرفنا عن مناقشة الحاضر، ورسم سيناريوهات المستقبل، لأننا فى الحقيقة ما زلنا أسرى الماضى، نعيش فى كهف التاريخ، ولكل قبيلة منا تاريخها الذى ترفعه فى وجه القبيلة الأخرى. ويبدو أن هذه ظاهرة خاصة بغياب إعمال العقل، واللعب على العواطف، والهروب إلى الماضى، ويبدو أنها ظاهرة عربية أصيلة. وأتذكر هنا مقولة الشاعر الكبير نزار قبانى: «فتاريخنا كله محنة.. وأيامنا كلها كربلاء».. كربلاء الدين، وكربلاء التاريخ.