انتخابات الوقت الضائع فى أمريكا
أخيرًا، نجحت الضغوط التي مارسها بعض قيادات الحزب الديمقراطي، في إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عدم استمراره فى سباق الرئاسة الأمريكية، المقرر إجراؤها يوم الخامس من نوفمبر المقبل.. رضخ بايدن للضغوط التي قام بها الرئيس الأسبق باراك أوباما، ورئيسة مجلس النواب السابقة، نانسى بيلوسى، وصديق بايدن الحميم، تشاك شومر، ولم يأت قراره مراعاة للمصالح العليا الأمريكية، كما قال.. بل إن القرار جاء نتيجة تهديد له بتفعيل مواد الدستور الأمريكى بعزله الآن من الرئاسة لظروفه الصحية الصعبة، وإمكانية فتح الملفات القضائية لابنه هانتر، وتحريك الدعوى فى مستندات رئاسية وجدت فى منزله، كما تم سابقًا مع دونالد ترامب، بالإضافة إلى تسريبات، يُقال إنها فى حوزة الحزب، يمكنها الإضرار بسمعة بايدن.
أثار انسحاب بايدن من سباق الرئاسة، قبل أربعة أشهر فقط من الانتخابات، المخاوف من تعميق الانقسامات فى صفوف الحزب الديمقراطى، وتراجع فرص مرشحه فى الفوز على الرئيس السابق، دونالد ترمب.. وفيما حذّر الرئيس الأسبق، باراك أوباما، من "آفاق مجهولة فى الأيام المقبلة"، أكّد رئيس اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطى، جيمي هاريسون، أن الحزب سينظم عملية "شفافة ومنظمة، لاختيار مرشح جديد، يمكنه هزيمة دونالد ترمب فى نوفمبر".
إذًا، خرج بايدن من السباق الرئاسى، بعد أن أحوجته سنواته الثمانين إلى تُرجمان يُقرب إليه الهتاف المتصاعد والغضب المتراكم من نشطاء حزبه، المطالبين بتنحيه عن سباق رئاسى، هو آخر من يمكن أن يسابق فيه، بعد أن وهن العظم واشتعل الرأس شيبًا، ووهنت القوى الذهنية، كما يقول أنصار حزبه الساعون إلى قطع الطريق أمام عودة خصمه الجمهورى، دونالد ترامب.. تسلَّم بايدن السلطة وهو فى الثمانية والسبعين من عمره، وبدا جليًا أن هموم السلطة قد أوهنت ساعده، وأضعفت قدراته الذهنية وأثقلت كاهله، الذى لم يتمكن من النهوض من كبوات متعددة، إما على سلم طائرة أو فى طريق سهل، يفترض ألا تخون الرئيس فيه قدماه.. أما كبواته السياسية فأكثر من أن تُحصى، حتى صار خصومه يعتقدون أنه يعانى خرفًا شديدًا، لا يمكن لصاحبه أن يدير يوميات حياته، فضلًا عن أن يدير شأن أكبر دول العالم، وأكثرها تدخلًا فى حياة الشعوب.. أما ترامب، المشرف على سقف الثمانين عامًا، والمتشوف إلى رئاسة ثانية، فقد نال الرئاسة فى سنة 2017 وهو فى السبعين من عمره، قادمًا من تاريخ طويل من الإثارة، وأدار أربع سنوات أكثر إثارة وصعوبة وانكفاءً للولايات المتحدة على نفسها.
بين العجوزين، دار السجال الانتخابى والسياسى طيلة السنوات المنصرمة، وفى دائرة الضوء كان ترامب دائمًا بين منابر السياسة وقاعات المحاكم.. وبدا في نهاية ولايته السابقة، أنه غير مؤمن بالتداول السلمى، حين وقف بقوة فى وجه فوز بايدن، معتبرًا أن انتخابات 2021 كانت عُرضة لتدخل خارجى وتأثير سلبى على الناخبين، وأن "الخَرِف بايدن لم ينجح بأصوات الشعب الأمريكى".. وإلى جانب السياسة، كانت المحاكم محطة أخرى لترامب طوال السنوات الأربع الماضية، فأُدين فى بعض التهم وأطلق عنه وثاق الاتهام فى بعضها، وخلال ذلك تمكن من الصعود مجددًا إلى الواجهة، باعتباره الوجه الأكثر تعبيرًا عن الانقسام الشديد فى القيم والأفكار داخل الشعب، ودوائر القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية.
لا ينتمى الرجلان إلى جيل الشباب، ولا يتقاسمان رؤية موحدة تجاه مواقف وحضور الولايات المتحدة خارجيًا، ولا تجاه المهاجرين الذين يطرقون أبواب الولايات المتحدة، كل يوم وساعة، بحثًا عن الفردوس الموعود.. ومع انعقاد أول مناظرة بين المرشحين، بايدن وترامب، بدا أن أمريكا وهى ترسم واقعها وتبحث مستقبلها، كأنما تقدم نفسها للعالم بصورة موغلة فى ماضيها عبر رجلين مُسنين، أحدهما مدان فى قضايا جنسية وملاحق بعشرات التهم الأخرى، والثانى يعانى تراجعًا كبيرًا فى قدراته الإدراكية.. ورغم ما حملته صورة المرشحين، بايدن وترامب، من دلالات عن حالة السياسة فى الولايات المتحدة، فقد أوحت لكثيرين، بالإضافة إلى ذلك، بشيخوخة تطرق أبواب الإمبراطورية التى تتربع على عرش العالم اليوم.. وبعد نهاية المناظرة، كانت السعادة تغمر أنصار ترامب، بينما كان الأداء الضعيف للرئيس بايدن، بمثابة مسمار فى نعش طموحه لولاية ثانية، ودبت بعدها حالة من الذعر فى أوساط الديمقراطيين، وكأن المناظرة كشفت للرأى العام سرًا لم يكن مُطلعًا عليه من قبل.
والآن.. ما هى أبرز السيناريوهات المطروحة أمام الديمقراطيين اليوم؟
أعلن بايدن تأييده ترشيح نائبته، كمالا هاريس، وقال إنها خياره المفضل لتمثيل الحزب فى سباق الرئاسة أمام ترامب.. إلا أن تزكية بايدن لا تضمن فوز هاريس بترشيح الحزب، بل إن عددًا من الديمقراطيين البارزين قد يتحدون ترشيحها قبل انعقاد المؤتمر الوطنى فى شيكاغو، 19 أغسطس المقبل، مما سيفتح الباب أمام جولات تصويت قد تشهد منافسة شرسة.. وفى الوقت الذى يدعو فيه كبار الديمقراطيين إلى توحيد الصفوف، تقدم هاريس نفسها البديل الأنسب لخلافة بايدن على رأس البطاقة الديمقراطية.. إلا أن تخوف البعض من مستويات شعبية نائبة الرئيس المتدنية، وعدم قدرتها على الفوز أمام ترامب، يجعل السباق مفتوحًا على أكثر من خيار.. وهنا، ينص الدستور الأمريكى، على أن يصبح نائب الرئيس رئيسًا إذا مات الرئيس أو أصبح عاجزًا عن ممارسة مهامه.. لكن هذا لا يؤثر على طريقة اختيار المرشح فى الحزبين.. وطُرح اسم حكام ولايات كاليفورنيا، جافين نيوسوم، وميشيجان، جريتشين ويتمور، وكنتاكى، آندى بشير، وإيلينوى، جيه بى بريتزكر، بوصفهم بدائل محتملين، وهم جميعًا من أنصار بايدن، وعملوا على مساعدته فى الترشح لولاية جديدة.. ومن الممكن أن يكون هناك نوع من التنافس بين الديمقراطيين من أصحاب الوزن الثقيل لنيل ترشيح الحزب.
لا شك أن انسحاب بايدن من السباق، سيمنح الحزب الديمقراطى فرصة كبيرة فى إعادة الحيوية لحملته الانتخابية التى تراجعت فى الآونة الأخيرة، لا سيما بعد المناظرة بين بايدن وترامب.. بيد أن هاريس، المحامية والسياسية الأمريكية من أصل إفريقى وآسيوى، والتى عادة ما توصف بأنها النسخة النسائية من الرئيس السابق، باراك أوباما، قد تعانى فى سبيل تحقيق إجماع داخل حزبها على ترشيحها لمواجهة ترامب فى السباق المنتظر.. ويعتبر بعض الديمقراطيين أن أداءها كان ضعيفًا، بل ومخيبًا للآمال، خلال نيابتها الرئيس، كما يتخوف البعض من تأثير التاريخ الحافل بالتمييز العنصرى والجنسى "النوع" فى نظرة الأمريكيين إليها.. ويشير هؤلاء، إلى أنه وعلى مدار تاريخ الديمقراطية فى بلادهم، الذى يعود لأكثر من قرنين، لم ينتخب الأمريكيون سوى رئيس أسود واحد فقط، هو باراك أوباما، ولم ينتخبوا امرأة ذات بشرة سوداء قط، وهو ما يجعل حتى بعض الناخبين السود يتساءلون، عما إذا كانت هاريس قادرة على تجاوز أصعب سقف فى السياسة الأمريكية.
على الجانب الآخر، يمثل انسحاب بايدن مكسبًا ومأزقًا أيضًا لمرشحه المنافس دونالد ترامب.. صحيح أن ترامب سارع إلى التأكيد على أن هزيمة هاريس ستكون أسهل عليه من هزيمة بايدن، ولكن الواقع أنه سيفقد أهم ورقة بنى عليها حملته الانتخابية، وهى عدم أهلية منافسه، بايدن، وضعف قدراته الإدراكية.. وفى المقابل، تملك هاريس بعض نقاط التفوق على ترامب، من بينها أنها أصغر منه سنًا بنحو عشرين عامًا، وتتعادل معه فى أحدث استطلاعات الرأى.. ورغم أن الحزب الديمقراطى لم يحسم أمره، حتى الآن، بشأن مرشحه لخلافة بايدن، فإن ترشيح هاريس بات مرجحًا بحكم دعمها من بايدن، ومحدودية الفترة الزمنية المتبقية على الانتخابات، كما أن وجودها فى دائرة القرار والأضواء منذ سنوات، يجعل فرصها داخل حزبها الديمقراطى أكثر من غيرها من الخيارات الأخرى.
نضيف إلى ذلك السؤال الأهم، الذى سيحدد على الأرجح خيار الديمقراطيين: أين تذهب أموال المانحين التى تبرعوا بها لبايدن؟
لقد جمعت اللجنة الانتخابية لبايدن وهاريس أكثر من 240 مليون دولار منذ بدء السباق، وبما أن البطاقة الانتخابية تحمل اسم الاثنين، فهذا يعنى أن هاريس يمكنها أن تحتفظ بهذه الأموال لحملتها.. هذا ما أكده جون مالكوم، المدعى العام الفيدرالى السابق ونائب رئيس معهد الحكومة الدستورية فى "هيرتاج"، الذى قال "إذا أصبحت هاريس المرشحة، فستحصل على الأموال، وإلا فستذهب هذه المبالغ إلى اللجنة الوطنية الديمقراطية، التى يمكنها أن تخصص المبالغ إلى المرشح الجديد بشكل جزئى، بسبب القوانين المالية المرتبطة بالانتخابات".. وهذا فى حد ذاته، قد يكون العامل الأساسى وراء اختيار بايدن هاريس بوصفها خليفة له.
■■ وبعد..
سيكون على الحزب الديمقراطى، الذى عانى كثيرًا من إصرار بايدن على البقاء فى مضمار، لا تُمكِّنه قدماه ولا خُطاه السياسية من السير فيه، أن يحسم خياره بسرعة، حتى يتجنب مزيدًا من المعاناة فى اختيار من يخلف العجوز الديمقراطى فى مواجهة العجوز الجمهورى.. وبين العجوزين المتنافسين، لا يخفى الأمريكيون قلقهم، من أن تكون بلادهم دخلت بالفعل مرحلة التقاعد الدولى، خصوصًا إذا ما فاز ترامب، الذي يولى المطالبين باستعادة وتطوير الدور العالمى للولايات المتحدة، أذنه التى أصبحت صماء.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.