رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شوبنهاور وفن العيش الحكيم

يقدم الفيلسوف الألمانى «أرثر شوبنهاور «١٧٨٨- ١٨٦٠» فى كتابه «فن العيش الحكيم»

طرحًا لنموذج حياة، ويحمل مجموعة من القواعد والمسلّمات الواجب اتّباعها والعمل بها.

وهو بذلك يسعى جاهدًا إلى مساعدة الناس عبر التأمل والتفكر إلى الحفاظ على الحياة الآمنة والطيبة، والتقليل من مخاوف الناس وهواجسهم، خاصة تلك المتعلقة بالخوف من الموت، والأقدار والأخطار المحدقة بالإنسان، وخطورة الانسياق مع أحكام الناس وهواجسهم وجحيمهم الذى لا ينتهى.

هذه القواعد، المسلّمات، تندرج تحت إطار قناعات فكريّة تولّدت لدى شوبنهاور، وارتبطت بتجربته وظروف حياته التى شهدت كثيرًا من المنعطفات الصعبة والقاسية، فقد انتحر والده، ولم يكن شوبنهاور قد تجاوز السابعة عشرة من عمره، وما لبث أن فارقته أمه لتعيش بعيدًا عنه فى نمط حياة متحرّرة وخالية من أى وازع دينى أو أخلاقى، ما جعل علاقته معها، وفى مختلف مراحل حياته، تحمل توتّرًا شديدًا، وإشكالات عميقة.. أثرت بشكل كبير على رؤيته للمرأة والعالم من حوله. 

كما يعتمد شوبنهاور فى رؤيته للحياة على كثير من الموروث الفلسفى اليونانى، فيتبنى تقسيم 

أرسطو لأنواع الخيرات فى حياة الناس إلى ثلاثة أنواع: خيرات ماديّة، وخيرات معنويّة، وخيرات بدنيّة. واستنادًا إلى هذا التقسيم الثلاثى، يرى شوبنهاور أن الحياة البشرية محكومة بثلاثة شروط هى:

الكينونة: أى ما نحن إياه، ولها صلة بشخصية الإنسان، بمعناها الشامل، وتشمل الصحّة والقوّة والجمال والمزاج والطبع الأخلاقى والذكاء.

الحيازة: أى ما عندنا، أو ما نملكه من أشياء.

التمثّلات: أى ما تُمثّله فى أعين الآخرين وموازينهم، أو بالأحرى، الطريقة التى يتمثّلنا بـها الآخرون، والدالّة على مدى تقديرهم لنا مــن عدمه، وهو ما يتبيّن من خلال آرائهم التقديرية التى يصنفون الناس اعتمادًا عليها. 

ركّز شوبنهاور على المستوى الأول، ورأى أن اختلافات الكينونة المتعلقة بكل شخص، بصفته فردًا، لها التأثير الحاسم على سعادته أو تعاسته، وذلك بالمقارنة مع الشروط الأخرى التى هى من وضع الناس، فالمزايا الشخصية التى تشمل العقل الراجح، والقلب الكبير، هى أساس سعادة الإنسان، أما النسب أو الثروة وما شابه، هى عوارض، فالأساس فى سعادة الفرد، من عدمها، ما يحدث بداخله، وما يعتمل فى قرارة نفسه، أما الأشياء الخارجية العارضة فتأثيرها عليه مشروط بأحواله الداخلية.

وفى كتاب «فن العيش الحكيم» يمكننا أن نتفهم ما اشتهر به شوبنهاور من تشاؤم من خلال شرحه مقولة أرسطو: «الأخلاق: غاية الحكيم ليست حياة مُترعةً فى اللّذة، بل خالية من الألم»، فكل لذة «متعة»، وكـل ســــعادة ذات طبيعة سالبة، بينما الألم ذو طبيعة موجبة. 

ذلك أن الحاجات الأساسية كما قسمها أبيقور هى: 

١ـ الحاجات الطبيعيّة الضروريّة، إن لم تُشبع كانت مصدرًا للألم، وتشمل الحاجة إلى الغذاء والكساء، وكلّ الحاجات التى يتيسّر إشباعها.

٢ـ الحاجات الطبيعيّة غير الضروريّة، وتشمل الحاجة الجنسيّة، وهى حاجة غير متيسّرة الإشباع دائمًا.

٣ـ الحاجات غير الطبيعيّة وغير الضرورية، وتشمل الحاجة إلى الترف والبذخ والإحساس بالعظمة والأبهة، وما شابه، وإشباعها غير متيسّر، وبالغ الصعوبة.

فـ«شوبنهاور» يرى أن المجهود الذى يبذله الإنسان للرفع من سقف مطامعه ومطامحه، مصدر كل مشاعر السخط والاستياء التى تخالجه، ذلك أن المجهود الجبار غالبًا ما يصطدم بعقبات تعترضه، وتحول دون الوصول إلى مراده. 

فـ«شوبنهاور» ليس متشائمًا، لكنه يرى أن تحقيق اللذة أو المتع يتطلب التضحية بكثير من الاعتبارات من أجل المزيد من الاستزادة من المتعة، ما يجلب على الإنسان الشقاء. 

محاولات الإنسان تحقيق مطامحه تصطدم دائمًا بالعقبات والموانع الخارجية، فالعالم تدبّره قوى ثلاث: الحذر، والقوّة، والحظ، ويرى أنّ الحظّ هو الصدفة فى هذه القسمة. فإذا كان هذا العالم كسفينة تبحر فى الماء، القدر فيه، هو الرياح الدافعة بقوة للسفينة إلى الأمام، أو إلى الخلف، وكلّ المجهودات أحيانًا، التى يبذلها ربّان السفينة لتغيير اتجاه السفينة، وللتخفيف من دفع الرّياح ذات تأثير ضعيف جدًا، أمّا إذا كانت حركة الرياح مساعدة وإيجابية، أى تجرى كما تشتهى السفن، كما يقال، فلا حاجة للإنسان للمجاديف أو لتحريكه لها.

إنّ الصدفة تعلم الإنسان أنّ الاستحقاق البشرى هو لا شىء فى ميزان الصدف ونعمها، فالحياة لعبة نَرْد، إن لم تحصل على العدد الذى تريد، اقنع بما وضعه القدر بين يديك.

ويؤمن شوبنهاور بمقولة فولتير «من لا يملك روح عمره فحياته كلها شقاء»، فيدعو كل إنسان لإعطاء كل فترة من حياته حقها والتمتع بما فيها من مميزات، فهو يرى أن: الشّباب هو زمن الشعر والشرود الذهنى، بينما النضج هو زمن التفلسف والفلسفة.

يُسرف المرء فى سنوات شبابه، على إنتاج تصورات خيالية حول أشياء وموضوعات هذه الحياة، على حساب المعارف المتينة، والرصينة، ورغم ذلك تظل سنوات الشباب هى شجرة المعرفة التى لا تُجنى ثمارها إلا بعد حين، أى بعد انصرام هذه السنوات. فالإنسان لا يصبح معلّمًا محنّكًا إلا بعد ولوجه فترة النضج، وهى خلاصة التصوّرات الدقيقة عن هذا العالم. 

فى فترة النضج يكتشف الإنسان ذاته لأوّل مرة بعد أن كان يظن أنه أعرَف بها من غيره، أنّه جاهل بحقيقتها وأسرارها وألغازها، بل وجاهل بتحقيق الغاية التى كان يلهث لها، والطموحات التى كان يهفو إليها وهى أمور لا تنكشف إلا عندما يشارف على النهاية، هذا هو القدر العام لبنى البشر، والصيرورة الإجمالية التى تسير وفقها حياتهم.