رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة فى تاريخ فلسطين: العاطفة والأرض «١»

فى افتتاحية كتاب «روما والقدس»، للفيلسوف اليهودى الألمانى «موسز هِس»، عبارة يقول فيها «لقد عاش اليهود بين أمم العالم ما يزيد على ألفى عام، ومع ذلك لم تمتد جذورهم فى أراضى هذه الأمم، إننى أشعر بأن قوميتى ترتبط بتراثى الذى انحدر من السلف، ولا تنفصم عراه عن الأرض المقدسة».

ثم وجه نداءً إلى الأمة اليهودية الممزقة فى أرجاء العالم قائلًا: «أيها الشعب اليهودى، حافظوا على بذور اليهودية مثلما حافظت بذور القمح التى وُجِدت بين الجثث المحنطة فى مقابر القدماء المصريين على قدرتها على الحياة، فظلت كامنة لآلاف السنين، ولكنها متى وجدت الأرض الخصبة والماء والهواء ستضرب بجذورها فى الأرض وستعود إلى الحياة مرة أخرى». 

ولد «موسز هِس» فى مدينة بون الألمانية عام ١٨١٢ لأبوين يهوديين، وتلقى تعليمه اليهودى من جده، ثم درس الفلسفة فى جامعة بون، ولكنه لم يكمل تعليمه الجامعى لانشغاله بالأفكار الاشتراكية التى كانت تلقى رواجًا حينها فى أوروبا، ثم لم يلبث أن انقلب على تلك الأفكار وهاجمها بضراوة، قبل أن يتفرغ لوضع نظرياته فى تأسيس الحركة الصهيونية العالمية، وسخر قلمه وكتاباته لدعوة اليهود لتأسيس وطن قومى لهم فى فلسطين، حتى اعتبره أغلب الباحثين مؤسس الفكر الصهيونى الحديث.

إن الأفكار التى طرحها «موسز» وغيره من مؤسسى الفكر الصهيونى تتخذ من إشكالية «الحق التاريخى فى الأرض» مدخلًا لاستيطان جماعات لا تنتمى فعليًا إلى هذه الأرض، بل إنها تنفصل عنها انفصالًا تامًا من الناحية الاجتماعية، والثقافية والعرقية أيضًا بحجة وجود «عاطفة» دينية- تاريخية نحو هذه الأرض. والعجيب أن هذه الدعوة قد لاقت فى بادئ الأمر مناهضة كبيرة من يهود أوروبا المستنيرين، ونشأت حركة مناهضة للصهيونية اسمها «هَسْكَلة» أو«Haskalah» وهى حركة تنويرية دعت إلى تبنى العلمانية، وقيم عصر التنوير للاندماج مع المجتمع الأوروبى، مع الاحتفاظ بتدريس اللغة العبرية والتعاليم اليهودية. ولكن هذه الحركة لاقت عنفًا شديدًا من دعاة الصهيونية، سواء عنفًا فكريًا حينما وُصِفت بأنها حركة شريرة فاسدة تهدف إلى اجتثاث اليهود، أو عنفًا بدنيًا حينما اغتيل بعض أعضائها على يد متعصبين يهود.

إن «العاطفة التاريخية نحو الأرض» مدخل مهم جدًا لفهم ارتباط الجماعة اليهودية بالأرض منذ نشأة هذه الجماعة وحتى الآن، ويتطلب منا فهم هذا الارتباط تفكيك تلك العاطفة إلى دوافعها الأساسية، والتى تشمل الدافع الدينى، والدافع الاستيطانى، والعجيب أن العنصر الأقوى فى تشكيل هذه العاطفة كان هو الدافع الاستيطانى! ويستطيع قارئ التاريخ أن يعقد مقابلة بين نصوص التوراة فى سفر الخروج التى دعت بنى إسرائيل للخروج من مصر «إلى الأرض التى تفيض لبنًا وعسلًا» (خ٣٣-٣) وبين مذكرات موسى حاييم مونتفيور عام ١٨٣٩ التى قدم فيها مشروعًا ليهود أوروبا كى يشجعهم على الرحيل إلى فلسطين، حيث آلاف الهكتارات من أحراش الزيتون وحقول التين والقمح والشعير، ومروج الكرم الغنية بالآبار، التى ستحقق الرخاء للشعب اليهودى فى حال استقراره فى هذه الأرض. وهذا يدل على أن سمة الاستيطان واستغلال الأرض وحياة الرخاء الموعودة كانت هى العاطفة الأساسية المحركة لجموع الشعب اليهودى فى مراحله المختلفة. 

وفى هذه السلسلة من المقالات التى دعانى لكتابتها الأخ العزيز الدكتور محمد الباز فى جريدة «الدستور» سنتناول تاريخ الأرض المقدسة، منذ نشأتها وحتى وقتنا الراهن، وسنحاول أن نقف على مراحل الصراع حول الأرض فى حقب مختلفة، بداية من حضارات الشرق القديمة حتى الصراع القائم حاليًا فى غزة.. والله المستعان.