رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قواعد بناء الجمهورية الجديدة (4)


أضحى ملف الطاقة قضية محورية، وأصبح تحقيق أمنها، أمرًا حيويًا لحماية الأمن القومي المصري، في وقت تعيش فيه الدولة تحديين رئيسيين؛ الأول، الارتفاع المتزايد في الطلب على الطاقة وتذبذب أسعارها، والثاني، تزايد عدد السكان بشكل كبير.. وتُشكل الطاقة أحد أهم المقومات الأساسية لممارسة النشاط الاقتصادي وغيره من الأنشطة الضرورية للبشرية، كما أنها تُعد بُعدًا استراتيجيًا في تحقيق الأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للدولة، حيث يؤثر غياب أو القصور في معادلة الطاقة أو عدم وصولها لكل المناطق والفئات، على اتجاهات بعض المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ويُعد ملف الطاقة أحد أهم الملفات التي توليها مصر عناية كبرى بمختلف قطاعتها، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاستراتيجي، حيث شهدت مصر منذ عام 2014 حراكًا واسعًا ومكثفًا، من أجل تحقيق أهدافها، والتي كان من ضمن أولوياتها، الوصول إلى معادلة طاقة متزنة وتنويع مصادرها، في ظل تنامي الطلب على الطاقة مع التوسع الضخم على كل المستويات.
ورغم الأزمة المؤقتة في الطاقة، والتي تسببت في تخفيف أحمال الكهرباء، والتي نشهد الآن بوادر حلها، إلا أن ذلك لا يمنعنا من القول، بأنه خلال السنوات العشر الماضية، حققت الدولة العديد من الإنجازات في هذا الملف، والتي كان من ضمنها تنويع مصادر الطاقة، حيث ترى القيادة السياسية في ذلك أحد الروافد الاستراتيجية، التي ساهمت بشكل كبير في تعزيز مفهوم أمن الطاقة.. لذلك، تعد قضية إصلاح دعم الطاقة، من القضايا التي اكتسبت أهمية كبيرة في الآونة الأخيرة، للارتباط القوي بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، حيث تعمل الحكومة، في الوقت الراهن، على إصلاح سياسات الدعم الحكومي، خصوصًا الموجه للطاقة، لجعلها أكثر استدامة بما يخدم النمو، بتوجيهها لصالح الفقراء والفئات الأكثر عوزًا، غير أن تحقيق ذلك لم يكن بالأمر السهل.
وتسعى الدولة إلى خفض فاتورة استيراد المشتقات النفطية، في ظل ارتفاع مستويات الطلب المحلي على المشتقات البترولية، وتُشكل زيادة إنتاج النفط في مصر إحدى أدوات الحكومة لتحقيق أهدافها، لذلك يجب تعزيز الاستثمارات في مجال البحث والاستكشاف، عن طريق زيادة طرح المزايدات للمناطق الواعدة ذات التقديرات العالية من الاحتياطي النفطي، بالإضافة إلى ضرورة تنويع شحنات النفط الخام، من خلال تنويع المنابع، لأن الغرض الرئيس هو الوصول إلى نقطة التوازن بين الاستهلاك المحلي ومستويات الإنتاج، وتلك هي الإشكالية الرئيسية.. لذلك، فمن الحلول السريعة، ضرورة التعاون مع دول الجوار فيما يتعلق بمسألة زيادة شحنات النفط الخام وضخها في معامل التكرير، والتي لا تعمل بالطاقة القصوى حاليًا، وضرورة استغلال ضعف البنى التحتية في بعض دول الجوار، إذ إن مصر تمتلك القدرة الأكبر في تكرير النفط الخام فى القارة الإفريقية.. بالإضافة إلى أن العمل على سرعة الانتهاء من المشروعات الجديدة، سيعمل على توافر قدرات إضافية، تساعد على تعزيز أمن مصر من الطاقة، الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من المنتجات البترولية.
وغني عن القول، أن لدى مصر تاريخ طويل في تشجيع التحول إلى الطاقة المتجددة، وعلى الرغم من أنها تعد دولة منتجة للوقود الأحفوري، وعلى الرغم من اعتمادها على الغاز الطبيعي والنفط في توليد الكهرباء "بنسبة حوالي 80%"، ولكن هناك اهتمامًا وطنيًا متزايدًا بتنويع مزيج الطاقة والاستفادة من إمكانات الطاقة المتجددة المتوافرة في مصر، لتأثره الكبير على تخفيف العبء على خزينة الدولة، وعدم التبعية لأسعار النفط الخام العالمية، كما يحقق الاعتماد على الطاقات المتجددة تخفيف انبعاثات الكربون.. وبشكل عام، تستهدف مصر وصول نسبة مساهمة الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء إلى حوالي 42% بحلول عام 2030، لتشمل حوالي 14% كهرباء مستمدة من طاقة الرياح، و21% من الطاقة الشمسية الكهروضوئية، بالإضافة إلى الطاقة الكهرومائية والطاقة الشمسية المركزة.. وهنا تجب الإشارة إلى أن مصر نجحت في رفع نسبة مساهمة الطاقة المتجددة في قدرة توليد الكهرباء إلى حوالي 20% خلال السنوات الماضية، مع ضرورة التركيز على مواصلة تأمين التغذية الكهربائية لتمتد لتغطية كل مناطق التعمير والتنمية.
وعليه، فإنه من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة اهتمامًا كبيرًا بملف الطاقة المتجددة، بهدف تعزيز مشاركتها في منظومة الطاقة المصرية، من خلال تنفيذ عدد من الاتفاقيات وبروتوكولات التعاون في قطاع الطاقة النظيفة والمتجددة، مع ضرورة تبني العديد من السياسات، التي تهدف إلى تشجيع مشروعات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر، مع تبني أطر تشريعية وتنظيمية ومؤسيسة جاذبة للاستثمارات في محور الطاقة النظيفة والخضراء.. وخلال السنوات المقبلة، من المتوقع أن تعتمد مصر التوسع في إنشاء محطات طاقة الرياح، بأكبر محطة طاقة رياح في العالم بقدرة حوالي عشرة جيجاوات، حيث سُيسهم مشروع المحطة في تفادي إطلاق حوالي 23.8 مليون طن من الانبعاثات سنويًا، تُشكل حوالي 9% من مجموع انبعاثات الكربون في مصر.. وستوفر محطة طاقة الرياح البرية الجديدة لمصر ما يُقدر بنحو خمسة مليارات دولار من تكاليف الغاز الطبيعي السنوية، إضافة إلى توفير ما يصل إلى مائة ألف فرصة عمل.
وفي ضوء استراتيجية مصر، للمضي قدمًا في تفعيل آليات وأدوات التنمية المستدامة، كانت مصر نموذجًا إفريقيًا في مجال التحول نحو الاقتصاد الأخضر، عبر العديد من المشاريع التي من أهمها إنتاج الهيدروجين الأخضر، حيث يحظى الهيدروجين الأخضر في مصر باهتمام كبير ومتزايد، خصوصًا مع توافر إمكانات الطاقة المتجددة.. وعليه ستكون مشروعات الهيدروجين والأمونيا حاضرة وبقوة خلال المرحلة المقبلة، بهدف تعزيز قدرات مصر في ملف الطاقة وتحقيق معادلة طاقة متزنة، من خلال خطة استراتيجية تهدف إلى التوسع في إنتاج الهيدروجين الأخضر، حيث تطمح أن تكون على رأس الدول المنتجة له باعتباره وقود المستقبل، وقد قامت بدمجه في استراتيجية الطاقة.. وعليه، فإن الطلب الحالي على الهيدروجين في مصر يبلغ حوالي 2% من الطلب العالمي، مع هدف رئيس، هو توفير حوالي عشرة ملايين طن سنويًا من احتياجات سوق الهيدروجين العالمية بحلول عام 2040، والتركيز على إنتاج الوقود الأخضر للقطاع البحري في قناة السويس. حيث تهدف مصر إلى الحصول على حوالي 1.1 مليون طن من الأمونيا الخضراء بحلول عام 2030 "طويل الأجل حوالي 2.3 مليون طن"، وحصة سوقية قد تصل إلى حوالي 8% من سوق الهيدروجين العالمي بحلول عام 2040 "إنتاج حوالي 220 ألف طن"، كما تعتزم تصدير حوالي 50% من طلب الاتحاد الأوروبي على الهيدروجين الأخضر.
وانطلاقًا من إيمان القيادة السياسية بأن أمن الطاقة هو جزء لا يتجزأ من أمن مصر القومي، أعادت القيادة السياسية إحياء الحلم النووي المصري مجددًا، حيث وقع الرئيس عبد الفتاح السيسي في فبراير من عام 2015 مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، اتفاقية إقامة أول محطتين نوويتين لتوليد الكهرباء بأرض الضبعة، كمرحلة أولى تستوعب حتى ثماني محطات نووية، ليعود الحلم ويخرج لأرض الواقع.. إذ إن محطة الضبعة النووية تُعد من أهم المكاسب الاقتصادية والسياسية لثورة الثلاثين من يونيو، التى نجحت فى وضع مصر على خارطة طريق الطاقة النووية، بعد أن ظلت حبيسة الأدراج منذ ما يقرب من ثمانية وستين عامًا.. وبهذا، سيكون ملف سرعة تنفيذ جميع محاور المشروع حاضرًا وبقوة خلال الفترة المقبلة، وضمن مستهدفات الحكومة الجديدة، مع ضرورة تشغيل محطة الضبعة بشكل تجريبي بحلول عام 2028، كخطوة جديدة نحو تعزيز أمن الطاقة المصري، بالإضافة إلى تحقيق العديد من الفوائد والمكاسب الاقتصادية للدولة المصرية.
آمالٌ عريضة تضعها الدولة المصرية على مشروعات الربط الكهربائي، لتحقيق حلم التحول إلى مركز عالمي لتجارة وتداول الطاقة.. حيث صاغت مصر توجهاتها وأهدافها من خلال استراتيجية التنمية المستدامة 2030، وبالأخص في قطاع الطاقة، والتي كانت من ضمن أهدافها الرئيسة، تحويل الدولة لتكون مركزًا محوريًا للطاقة، ولكي تصبح مصر لاعبًا فاعلًا في إنشاء سوق عربية مشتركة للكهرباء، حيث تتصدر أولويات قطاع الكهرباء المصري في الفترة الحالية، واستكمال الإجراءات الخاصة بمشروعات الربط الكهربائي مع دول الجوار، ومنها المملكة العربية السعودية والأردن، ومنها للعراق، وليبيا، وكذلك الربط أوروبيًا مع قبرص واليونان وإيطاليا.. وسيكون ملف تطوير وتوسعة شبكات نقل الكهرباء وتوزيعها، خلال الفترة المقبلة، حاضرًا وبقوة، حتى تتمكن من استيعاب القدرات المنتجة من مشروعات الطاقة المتجددة، وكذلك تبادل الكهرباء مع دول الجوار، وتعزيز تدعيم وتطوير الشبكة القومية الموحدة لدعم مشروعات الربط الكهربائي.. وبذلك، تكون ملفات ومحاور تحقيق أمن الطاقة المصري في ظل الحكومة الجديدة قد تحققت، من خلال النقاط زيادة الاستثمارات في الطاقة الأحفورية أو التقليدية.. تحسين كفاءة الطاقة وترشيد استخداماتها.. زيادة وتعزيز مساهمة الطاقة المتجددة في معادلة الطاقة المصرية.. تعزيز التعاون الإقليمي والدولي في مجال الطاقة.. تعزيز الشراكات العالمية في صناعة الهيدروجين بكل محاوره المختلفة.. والاهتمام بالبحث العلمي في معالجة تحديات ملف الطاقة.
■■ وبعد..
فخلاصة القول، أن التغيير الشامل للحكومة، كان أمرًا مهمًا للدولة والمواطنين، حيث يمنح فرصة لتقديم رؤى مغايرة وأساليب تظهر فيها الحكومة الجديدة أكثر استجابة ومرونة للعديد من القضايا الداخلية في مختلف المجالات.. وقد حققت الدولة المصرية العديد من النجاحات في قطاع الطاقة، على جميع الأصعدة خلال السنوات العشر الماضية، من خلال الاستفادة من الموقع الاستراتيجي والأصول والبنية التحتية، وبفضل استراتيجية الطاقة، ليصبح من أكثر القطاعات التي شهدت نهضة لا مثيل لها محليًا وعالميًا، في الفترة ما بين عامي 2014 حتى 2024.. وعليه يجب على الحكومة الجديدة السعي إلى تنويع مصادر الطاقة المختلفة، مما يدعم من خططها لسد الفجوة الحالية، بين مستويات الإنتاج ومعدلات الاستهلاك المحلي.. مع ضرورة العمل على أن تكون هناك استقلالية كبيرة في أمن الطاقة، خصوصًا في منطقة ليست بمنأى عن الصراعات الإقليمية، والعمل على تعزيز جذب الاستثمارات الخارجية في مجال الطاقة، وبالأخص النفط الخام والغاز الطبيعي، وهو ما يُعد حلًا آخر من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، لأن النفط والغاز سيبقيان مصدرًا موثوقًا ولعقود، فيما يتعلق بتوليد الكهرباء، أو مصدرًا للصناعة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.