كيف نحيى نظام الجمعيات على طريقة جداتنا؟
تعني الجمعية، معجميًا، "جماعة من الأفراد ينتظمون في عمل جماعي مشترك حسب قانون داخلي لهدف ومقصد معينين". كانت جداتنا، يرحم الله أكثرهن، ينشئن فيما بينهن جمعيات لمواجهة ظروف الحياة القاسية، كانت الدنيا سهلة إلى حد كبير، ولكن متى كانت الدنيا لا تتطلب مالا وافرا يفي بالحاجات؟ ومتى كان الناس متساوين في الدخول والثروات أصلا؟ ومتى سكت الدهر عن تقلباته التي طالما عصفت بذوي الأموال فأفقرتهم بين يوم وليلة؟
قانون جمعيات الجدات كان بسيطا للغاية.. مجموعة من السيدات يتفقن على عمل جمعية تساعد حياتهن، تكون الجمعية باسم فلانة التي تجتمع عندها الأموال، لا بد أن تكون سيدة ثقة طبعا، يتحدد مبلغ للاشتراك الشهري، ويتحدد موعد لانتهاء الجمعية، ومن تقبض مبلغها أول مرة، وهكذا إلى آخر مرة، يتكرر الأمر حتى تنال كل واحدة من المشتركات في الجمعية مبلغها كاملا..
كانت المبالغ صغيرة فيما مضى، عشر سيدات تدفع كل واحدة منهن عشرة جنيهات شهريا، وتقبض المئة كل شهر واحدة منهن، بتفاهم من الأول يقضي على أي نزاع، إلى أن تقبضه الأخيرة، وقد يعدن الجمعية وقد يكتفين، على حسب الأحوال.
مع الوقت زادت أعداد السيدات وزاد الرقم الشهري للاشتراك؛ لأن الحياة فتحت فمها، كما يقال، ولم تعد تشبع.. ومع مرور السنين تفرقت النساء، كما تفرق المجتمعون على وجه العموم، اغتنت من اغتنت فاستغنت عن صداع الجمعيات، وافتقرت من افتقرت فلم تعد قادرة على الاشتراك من الأساس، الفقيرات فنين والقادرات بحثن عن وسائل أخرى لاستثمار المال وتنميته كالبنوك بالذات.
شهدت أنا تلك الجمعيات صغيرا بالصعيد الجنوبي، كانت حكرا على النساء هناك، ولم يكن للرجال جمعيات تخصهم؛ ربما لأن الرجل عليه أن يعمل بيده ويكسب غير معتمد على نقود الآخرين بأية صورة من الصور، شهدتُ بساطة الموضوع وشهدتُ تعقيده بالمثل، ومن البساطة، مثلا، أن المستحقة الأولى لمبلغ الجمعية كانت تتنازل عن دورها لأخرى تراها أشد احتياجا، ومن التعقيد أن تعلن امرأة متأخر دورها، فجأة، أنها في كارثة وتحتاج إلى مال عاجل، ولا تجد متقدمة في الدور تتنازل لها، ومن التعقيد أيضا أن تنسحب امرأة في منتصف الطريق، مطالبة بما كانت دفعته، فترتبك الأمور ارتباكا شديدا، إلى أن يبزغ حل، وقد لا يبزغ، فتكون خسارة ما..
كان ذلك النظام مفيدا على كل حال؛ زوّج بنات كثيرات، وسدد ديونا، وستر بيوتا، وعالج مرضى، ودفن أمواتا. لا أدري لماذا لم يعد موجودا؛ فالوقت الحاضر يحتاج إلى مثله جدا، إنني أذكره الآن داعيا إلى عودته، وفي رجوعه رجوع إلى زمن حميم، بدون حنين قاتل معيب، وفيه كذلك رجوع إلى تماسكنا القديم وأخلاقنا المصرية الطيبة السمحة الصميمة.. ليتنا نحييه فنحيي أنفسنا!