مقابر المترفين!
يكفي الإنسان، حين يأتيه الأجل، أن يواريه التراب، في مقبرة خاصة أو حتى مقبرة من مقابر الصدقة "على حسب الظروف"، والمهم أن يجد الجسد أمتارًا تستره، والطبيعي أن يكون مكان الدفن بسيطًا ونظيفًا ومعروفًا وسط أماكن تشبهه، أما أن يتحول الموت إلى صراع ترف، كما كانت الحياة في وجه من وجوه صراعاتها، فهذا مرفوض، صحيح أن الإنسان حر في ماله يفعل به ما يشاء، إن حيًا وإن ميتًا، ولكن إهدار المال في الموت سفاهة ما بعدها سفاهة؛ لأن المثل يقول: "الحي أبقى من الميت".. ومن العجائب أن تكون جبانة الميت بملايين، وجماعات غفيرة من الأحياء تعاني الضنك والهوان!
مع جنازات الأثرياء والمشاهير تنشط أحاديث كهذا الحديث، يتكلم الناس تحت ضغط حوائجهم، يتكلمون سرًا وجهرًا، ربما تكون صدمة الموت شديدة، وغالبًا ما تكون شديدة أيًا كانت أحوال الراحلين في أواخر الأيام، ولكن الناس، أمام المظاهر المستفزة المبالغ فيها، يجدون ألسنتهم تتكلم: فلان مقبرته كالجنة.. فلانة جهزت مدفنها فوق ما تجهز العرائس مساكنهن "وهكذا دواليك"، ولو كان الناس مخطئين؛ لأنهم لا شأن لهم بغيرهم في الحقيقة؛ فإن الأثرياء والمشاهير، أو بعضهم على وجه الدقة، أكبر خطأ؛ لأنهم يسرفون في أمر لا يجب الإسراف فيه، ويتزيدون في موضع لا يصح التزيد أمام منظره الفظيع.. ما معنى أن تكون مقبرة فلان منعزلة، بأشجارها العالية، عن بقية المقابر المحيطة، كأنها القصر المنيف، وما يحيط بها كأنه الخرائب؟! وما معنى أن تكون ساحة مقبرة فلانة بحجم ملعب الكرة، وأن تحوي كراسي وثيرة لاستقبال الزائرين، وأجهزة صوتية فخمة لبث الآيات والمواعظ، وربما نوافير مذهبة وديكورات جذابة، وأن تكون المقابر القريبة منها بائسة تمامًا؟! هل التمييز بين البشر امتد إلى العدم؟! لماذا لا يملك القادرون مقابر عادية كسائر خلق الله، وإن أرادوا أن يرفعوا أنفسهم درجات، فوق الباقين، فليجعلوا مقابرهم المترفة كلها في مكان لا يذهب إليه العاديون أصلًا، أعني أغلبية الناس، حتى لا يحسدهم حاسد في مقام توقفت فيه الصفات الذميمة عن العمل، إلا أن يحركها محرك مستفز عات!
لا يحتاج الإنسان، مهما تكن منزلته رفيعة في الدنيا، إلى أكثر من أمتار محدودة في ختام المشاوير، كان ذلك جواب "ليو تولستوي" القديم في قصته البديعة: كم من الأرض يحتاجها الإنسان How Much Land Does a Man Need?"، القصة المنشورة في 1886، والتي من الواضح أنها مرت بلا تركيز ولا فهم، كما مر كثير من الأدب المعتبر كذلك للأسف.
أعلم أن الفوارق الطبقية الشاسعة ستظل قائمة، وأن المساواة المنشودة صعبة المنال، ما لم تكن مستحيلة، لكنني أخطأت حتمًا إذ تصورت أن مشاهد الموت ستكون أكثر عدالة من مشاهد الحياة!!