رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معًا.. من أجل السودان.. أولًا وأخيرًا

ماجد حبته
ماجد حبته

بالتوافق على تشكيل لجنة لتطوير النقاشات ومتابعة جهود التوصل إلى سلام دائم، فى البلد الشقيق، انتهى المؤتمر، الذى عقدته القوى السياسية والمدنية السودانية، أمس الأول، السبت، بالعاصمة الإدارية الجديدة، فى القاهرة، تحت شعار «معًا.. من أجل وقف الحرب»، بحضور ممثلى الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقى وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبى وعدد من الدول الفاعلة، المهتمة بملف السودان.

فى البيان الختامى للمؤتمر، أكد ممثلو القوى السياسية والمدنية السودانية أنهم استجابوا لـ«الدعوة الكريمة التى بادرت بها جمهورية مصر العربية»، للتشاور والاتفاق على الحد المطلوب من أجل وقف الحرب وإنهاء الأسباب التى أفضت إليها، والمسارعة إلى تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة وعلى رأسها الغذاء والدواء والتعليم، أملًا فى أن تتكلل هذه الجهود بإسكات صوت المدافع وتحقيق أمان المدنيين وإخراس أصوات العنف والكراهية، وإعادة إعمار المرافق الأساسية، التى تجعل حياة السودانيين ممكنة فى بلادهم، وتهيئ الدولة لعودتهم إلى بيوتهم ومزاولة حياتهم الطبيعية. وأشاروا إلى أن النقاش تناول ضرورة الوقف الفورى للحرب، بما يشمل آليات وسبل ومراقبة الوقف الدائم لإطلاق النار ووقف العدائيات. 

الجهود والتحركات والاتصالات، العلنية والسرية، التى قامت، وتقوم، بها مصر مع دول الجوار والقوى الدولية والإقليمية، تتكامل مع مختلف المسارات، وتستند إلى عدد من المحددات والثوابت، أبرزها ضرورة التوصل إلى وقف شامل ومستدام لإطلاق النار، والحفاظ على المؤسسات الوطنية، التى تعد الضمانة الأساسية لحماية الدولة الشقيقة، وكل الدول، من خطر الانهيار. وفى سياقات مختلفة، أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى أن النزاع يخص الأشقاء السودانيين، وأن دور الأطراف، الدولية أو الإقليمية، ينبغى أن يقتصر على مساعدتهم فى إيقافه وتحقيق التوافق حول حل الأسباب التى أدت إليه. وبوضوح أكثر، أكد الرئيس احترام مصر إرادة الشعب السودانى، ورفضها التدخل فى شئونه الداخلية. وتأسيسًا على تلك المحددات أو هذه الثوابت، شدّد الرئيس السيسى، خلال مشاركته فى اجتماع عقده «مجلس السلم والأمن الإفريقى»، عبر الـ«فيديو كونفرانس»، فى ٢٧ مايو ٢٠٢٣، على ضرورة أن تقوم كل المسارات على معايير موحدة ومنسقة يدعم بعضها بعضًا، وتؤسس لخارطة طريق للعملية السياسية، تعالج جذور الإشكاليات، التى أدت إلى الأزمة الحالية بمشاركة موسعة وشاملة، لجميع أطياف الشعب السودانى، كما أكد الأهمية القصوى للتنسيق الوثيق مع دول الجوار، لحلحلة الأزمة واستعادة الأمن والاستقرار بالسودان باعتبارها طرفًا أصيلًا، ولكونها الأكثر تأثرًا بالأزمة، والأكثر حرصًا على إنهائها، فى أسرع وقت.

فى هذا السياق، استقبل الرئيس السيسى، صباح أمس، الأحد، وفدًا سودانيًا من المشاركين فى المؤتمر، بحضور الدكتور بدر عبدالعاطى، وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين فى الخارج، واللواء عباس كامل، رئيس المخابرات العامة، وعدد من ممثلى الأطراف الإقليمية والدولية، من بينهم وزير خارجية تشاد، وكبار مسئولى دول الإمارات وقطر وجنوب السودان وألمانيا، إضافة إلى ممثلى الاتحاد الإفريقى وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، وسفراء فرنسا وبريطانيا والنرويج والاتحاد الأوروبى والسعودية بالقاهرة. وخلال اللقاء أعرب الرئيس عن تقديره لاستجابة المشاركين للدعوة المصرية لعقد هذا المؤتمر المهم، تحت شعار «معًا.. من أجل وقف الحرب»، فى ظل اللحظة التاريخية الفارقة التى يمر بها السودان الشقيق، والتى تتطلب تهيئة المناخ المناسب، لتوحيد رؤى السودانيين تجاه كيفية وقف الحرب، مشددًا على أن مصر لن تدخّر جهدًا فى سبيل رأب الصدع بين مختلف الأطراف السودانية، ووقف الحرب، وضمان عودة الأمن والاستقرار، والحفاظ على مقدرات الشعب السودانى، مؤكدًا ضرورة تكاتف المساعى للتوصل إلى حل سياسى شامل، يحقق تطلعات شعب السودان، وينهى هذه الأزمة العميقة متعددة الأبعاد، بما تحمله من تداعيات كارثية على مختلف الأصعدة، السياسية والاجتماعية والإنسانية.

مجددًا، أكد الرئيس أن الدولة المصرية تبذل أقصى الجهد، سواء ثنائيًا، أو إقليميًا، أو دوليًا، لمواجهة تداعيات الأزمة السودانية، عبر تقديم كل أوجه الدعم، بما يعكس خصوصية العلاقات المصرية السودانية. موضحًا أن مصر مستمرة فى إرسال عدد كبير من شحنات المساعدات الإنسانية للأشقاء فى السودان، إضافة إلى استضافتها ملايين الأشقاء السودانيين بمصر. وسياسيًا، شدد الرئيس على ضرورة أن يتضمن الانتقال للمسار السياسى للأزمة مشاركة جميع الأطراف، وفقًا للمصلحة الوطنية السودانية دون غيرها، وأن يكون شعار «السودان أولًا» هو المحرك لجميع الجهود الوطنية المخلصة، مع ضرورة أن ترتكز أى عملية سياسية، ذات مصداقية، على احترام مبادئ سيادة السودان، ووحدة وسلامة أراضيه، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، باعتبارها أساس وحدة وبناء واستقرار السودان وشعبه الشقيق، مؤكدًا حرص مصر على التنسيق والتعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين لحل الأزمة السودانية.

المتحدثون، من رموز القوى السياسية والمدنية السودانية، أعربوا من جانبهم عن تقديرهم وتثمينهم البالغ الجهود المصرية المخلصة، لدعم السودان منذ بدء الأزمة الراهنة، واصفين ذلك بأنه يجسد عمق الأواصر التى تجمع شعبى البلدين، ووحدة التاريخ والمصير بينهما، مؤكدين ترحيبهم بمساعى القيادة المصرية لتقريب وجهات نظر الأطراف السودانية، للخروج من الأزمة الحالية، إضافة إلى الدعم الذى تقدمه مصر لشعب السودان، سواء عبر سعيها الدءوب لمعالجة الوضع الإنسانى الكارثى الذى تعيشه مناطق واسعة فى السودان، أو من خلال استضافتها الكريمة والطيبة، شعبًا وحكومة، لأبناء الشعب السودانى فى وطنهم الثانى مصر، بما يعكس العلاقات الأخوية الأزلية التى تربط البلدين والشعبين الشقيقين.

استضافة مصر مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية، إذن، جاءت استكمالًا لجهودها ومساعيها لوقف الحرب فى السودان، وفى إطار من التعاون والتكامل مع جهود الشركاء الإقليميين والدوليين، بحسب وزير خارجيتنا، الذى شدّد، فى كلمته الافتتاحية، على أن مصر ستستمر فى بذل كل ما فى وسعها، لوقف نزيف الدم السودانى الغالى، والعمل على تسهيل إنفاذ المساعدات الإنسانية المقدمة من الدول المانحة عبر الأراضى المصرية، كما أكد وزير الخارجية، مجددًا، موقف مصر الثابت، قولًا وفعلًا، بأن أى حل سياسى حقيقى للأزمة لابد أن يستند إلى رؤية سودانية خالصة، دون إملاءات أو ضغوط خارجية، وفى إطار احترام مبادئ سيادة السودان ووحدة وسلامة أراضيه، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، مشددًا على أهمية وحدة القوات المسلحة السودانية لدورها فى حماية السودان والحفاظ على سلامة مواطنيه.

بالفعل، بذلت مصر، ولا تزال، كل ما فى وسعها، منذ بداية الأزمة، سواء عبر دعم الجهود الإفريقية والعربية والدولية، أو بمواصلة التنسيق مع كل الشركاء والمنظمات الإغاثية، لتوفير الاحتياجات الإنسانية العاجلة، والتخفيف من الوضع الإنسانى المتدهور. ومن هذا المنطلق، استضافت القاهرة، فى يوليو الماضى، «قمة دول جوار السودان»، التى انتهت بالتوافق على تشكيل آلية وزارية بشأن الأزمة، لوضع خطة عمل تنفيذية، تتضمن وضع حلول عملية، لوقف الاقتتال، والتوصل إلى حل شامل لتلك الأزمة، التى لم تحرز فيها الوساطات الدولية والإقليمية المتعددة، إلى الآن، أى تقدم يُذكر. ولعلك تعرف أن مصر كانت وجهة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السودانى، حين غادر السودان، لأول مرة، بعد بداية الأزمة، فى ٢٩ أغسطس الماضى. ثم زارها، مرة ثانية، فى ٢٩ فبراير الماضى. وفى المرتين، استقبله الرئيس السيسى، وناقش معه تطورات الأوضاع، والجهود الرامية لتسوية الأزمة، ما يضمن استعادة الاستقرار، ويحافظ على سيادة ووحدة وتماسك الدولة السودانية ومؤسساتها.

المهم، هو أن ممثلى القوى السياسية والمدنية السودانية اتفقوا، فى مؤتمر أمس الأول، على أن الحرب، التى اجتاحت بلادهم وقتلت وشردت وأذلت شعبهم ومزقت نسيجهم الاجتماعى، صباح ١٥ أبريل ٢٠٢٣، لا تمثل فقط علامةً فارقةً، لكنها تاريخ جديد يُلزم كل سودانية وسودانى بالنظر والمراجعة الدقيقة لمواقفهم كافة. وبعد إدانتهم كل الانتهاكات، التى تم ارتكابها، خلال هذه الحرب، أجمعوا على ضرورة المحافظة على السودان وطنًا موحدًا، على أسس المواطنة والحقوق المتساوية والدولة المدنية الديمقراطية الفيدرالية. وبشأن الأزمة الإنسانية، التى باتت تمثل المأساة الأكبر فى العالم، وتأتى على رأس الأولويات التى تستوجب التصدى لها، دعا المجتمعون إلى حماية العاملين فى المجال الإنسانى، وتجنيبهم التعرض للخطر والملاحقة والتعويق من قبل أطراف الحرب، وفقًا للقانون الدولى والانسانى، ومواصلة دعم جهود المجتمع المحلى والدولى للاستمرار فى استقطاب الدعم من المانحين وضمان وصوله للمحتاجين. 

جهود مصر الإنسانية، مند بدء الأزمة، استعرضها وزير الخارجية، فى كلمته، لافتًا إلى أننا استقبلنا مئات الآلاف من الأشقاء، الذين انضموا إلى حوالى خمسة ملايين سودانى يعيشون فى مصر منذ سنوات. كما أوضح أن الحكومة المصرية قدمت مساعدات إغاثية عاجلة تضمنت مواد غذائية وإعاشية ومستلزمات طبية للمتضررين من النزاع، بالإضافة إلى استمرارها فى تنفيذ عدد من المشروعات التنموية، لتوفير الخدمات الأساسية لهم. كما أشاد وزير خارجيتنا، أيضًا، بالجهود الكبيرة والمواقف النبيلة، التى اتخذتها دول جوار السودان، التى استقبلت الملايين من الأشقاء السودانيين، وشاركت مواردها المحدودة فى ظل وضع اقتصادى بالغ الصعوبة، وطالب جميع أطراف المجتمع الدولى والمنظمات الإنسانية متعددة الأطراف، بدعم دول الجوار الأكثر تضررًا من التبعات السلبية للأزمة، والوفاء بتعهداتها، التى أعلنتها فى المؤتمر، الذى استضافته جنيف، فى يونيو ٢٠٢٣، وكذلك مؤتمر دعم السودان ودول الجوار، الذى أقيم فى باريس، منتصف أبريل ٢٠٢٤، لسد الفجوة التمويلية القائمة، والتى تناهز ٧٥٪ من إجمالى الاحتياجات. وهنا، قد تكون الإشارة مهمة إلى أن الأمم المتحدة قدرت احتياجات السودان من المساعدات الإنسانية، فى فبراير الماضى، بحوالى ٢.٧ مليار دولار، وأكدت أن ما توافر منها، كان أقل من ٦٪، قبل مؤتمر باريس، الذى تعهد المشاركون فيه بتقديم أقل من مليار دولار، فى رواية، وأكثر من مليارين، فى رواية أخرى، وانتهى بـ«إعلان سياسى» من ثمانى فقرات تتضمن توصيات بلا آليات تنفيذ، مع أن هذا المؤتمر كان يستهدف «إعادة وضع السودان على الأجندة الدولية»، و«تعبئة الأسرة الدولية لدعم السودانيين»، الذين وصفهم وزير الخارجية الفرنسى بأنهم «ضحية النسيان واللا مبالاة»!

المبادرات المتنافسة، ولن نصفها بغير ذلك، أحدثت قدرًا من الارتباك فى طريقة تسوية الأزمة، وأدت إلى تدهور الأوضاع الإنسانية والأمنية. وعليه، جاء مسار «دول جوار السودان» استمرارًا للجهود والاتصالات، التى قامت بها مصر مع دول الجوار والقوى الإقليمية والدولية. واستكمالًا لتلك الجهود، جاءت استضافة مصر مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية، الذى نتمنى أن تنجح «لجنة تطوير النقاشات»، التى انتهى المؤتمر بالتوافق على تشكيلها، فى التوصل إلى اتفاق، تدعمه آلية تنفيذ ومراقبة فعالة، يوقف الحرب الدائرة، ويحقق السلام الدائم، ويحافظ على الدولة السودانية ومقدراتها، ويحد الآثار الجسيمة، أو الكارثية، لاستمرار الأزمة على دول الجوار، وعلى أمن واستقرار المنطقة ككل.

.. وأخيرًا، عرفنا من البيان الختامى للمؤتمر أن ممثلى القوى السياسية والمدنية السودانية ناشدوا «الدول والجهات الداعمة لأطراف الحرب بأى من أشكال الدعم المباشر وغير المباشر»، بالتوقف عن إشعال المزيد من نيران الحرب، ووجهوا الشكر للرئيس السيسى وحكومة مصر وشعبها، «لوقفتهم إلى جانب الشعب السودانى فى محنته الراهنة». كما وصفوا اجتماع القاهرة بأنه «فرصة قيمة»، لأنه جمع لأول مرة، منذ بداية الحرب، الفرقاء المدنيين فى الساحة السياسية، وطيفًا مقدرًا من الشخصيات الوطنية وممثلى المجتمع المدنى، الذين توافقوا على ضرورة العمل لوقف الحرب وتجنيب المرحلة اللاحقة كل الأسباب، التى أدت الى إفشال الفترات الانتقالية السابقة، وصولًا الى إعادة تأسيس الدولة السودانية.