رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دماغ نعوم تشومسكى

نعوم تشومسكى مفكر ولغوى وناشط سياسى أمريكى من طراز رفيع، أُصيب قبل عام بجلطة فى المخ أفقدته النطق، وقبل أسبوعين ترددت أنباء عن رحيله، تبين أنها غير صحيحة، نعاه كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعى قبل التحقق من الخبر، ولكن استدعاء مواقفه النبيلة المؤيدة للعرب والفلسطينيين طغت على قيمته العلمية، يوصف بأنه «أب اللسانيات الحديث» وصاحب نظرية «النحو التوليدى»، التى تعد أهم إسهام فى مجال النظريات اللغوية فى القرن العشرين، كما يعتبر صاحب نظرية «تسلسل تشومسكى» الخاصة بالتحليل اللغوى، ولكن لا بأس، فنحن فى حاجة إلى أصوات تناصر قضايانا فى الغرب المنحاز طوال الوقت إلى أعدائنا. عمل تشومسكى فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو أقرب الجامعات الأمريكية إلى البنتاجون!، ومع هذا كان أبرز المثقفين الأمريكيين الناقدين للإمبريالية، ولخطاب السلطة، وللحرب، والرأسمالية النيوليبرالية، وهو أمر أقر به تشومسكى نفسه حين قال «كأن فى دماغى جزءين؛ أحدهما علم محض فى خدمة المؤسسة، والآخر نشاط سياسى ناقد له»، معترفًا بأنه لا يوجد تواصل بين تشومسكى العالِم وتشومسكى الناشط السياسى. أدرجه الرئيس الأمريكى نيكسون ضمن لائحة «أعداء البلاد» بسبب مواقفه.

اليهودى الذى ولد سنة ١٩٢٨ فى بنسلفانيا لعائلة مهاجرة من اليهود الأشكناز، «أبوه أوكرانى وأمه بيلاروسية»، اهتم مبكرًا بالفلسفة الفوضوية وتوسع فى انتقاد الرأسمالية الليبرالية والدعاية فى وسائل الإعلام، إضافة إلى السياسة الخارجية الأمريكية، ولذلك فإنه لا يتردد فى وصف نفسه بـ«النقابى الفوضوى، والليبرالى الاشتراكى»، ساند حركة الطلاب الاحتجاجية عام ١٩٦٨، وكان يرى أن هجمات ١١ سبتمبر اشتهرت فقط لأنها فعل خارجى ضد الغرب، مشيرًا إلى أنه لا أحد يتذكر أن هناك ١١ سبتمبر أخرى وقعت عام ١٩٧٣ حين رعت أمريكا انقلابًا دمويًا فى تشيلى. لم يعتبر أمريكا «ضحية» خلال هذه الأحداث، لأنها دفعت ثمنًا باهظًا لإرهاب غذّته ونشرته فى العالمين الإسلامى والعربى، كما جاء فى كتابه «تشريح الإرهاب»، كانت حرب فيتنام نقطة تحول فى حياته كناشط سياسى، فأصدر كتابه الشهير عن مسئولية المثقف، ووقف بصرامة ضد الحرب، وشارك فى الاحتجاجات ضدها، مع أنه لم يترك العمل فى ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأصبح لاحقًا أستاذ شرف مدى الحياة هناك، كما عُيّن أستاذًا فى فلسفة العدالة الاجتماعية بجامعة أريزونا، عارض أيضًا الغزو الأمريكى البريطانى للعراق عام ٢٠٠٣، وقال فيما بعد إن ذلك الغزو هو الذى خلق البيئة المناسبة لنشأة تنظيم الدولة الإسلامية، بسبب ما خلفه من تدمير للمجتمع العراقى وإرساء للطائفية فيه، ويقول إن الولايات المتحدة الأمريكية تخشى قيام أى ديمقراطية حقيقية فى المنطقة العربية، خاصة مع اندلاع ثورات الربيع العربى وتداعى قوى هيمنتها على العالم. زار تشومسكى قطاع غزة فى أكتوبر عام ٢٠١٢ تضامنًا مع أهلها المحاصرين، وهو يؤكد على الدوام أن إسرائيل تنتهج سياسات من شأنها زيادة المخاطر المحدقة بها إلى أقصى حد، «فهى سياسات تختار التوسع على حساب الأمن، وتقود إلى انحطاطها الأخلاقى وعزلتها ونزع الشرعية عنها، الأمر الذى سيؤدى إلى دمارها فى نهاية المطاف، وهذا أمر غير مستبعد»، فضح أيضًا فى كتابه «مثلث المصير: الأمريكيون وإسرائيل والفلسطينيون» أوهام الكثيرين فى الغرب من القراء حول أهداف وعواقب الدعم الأمريكى لإسرائيل، كاشفًا فيه كيف تُصنع «صورة إسرائيل الضحية» التى يُغذيها الوهم والوعى الزائف والتلاعب الإعلامى. 

السلوك الأوروبى الاستعمارى فيما يخص «إسرائيل» لم يصدمه على الإطلاق، قال: «جاء المستوطنون الأوروبيون إلى أرض أجنبية، واستقروا هناك، ارتكبوا إما إبادة جماعية ضد السكان الأصليين وإما طردوا منها. ولم يخترع الصهاينة شيئًا جديدًا فى هذا الصدد». وقف تشومسكى فى كتاباته وآرائه النقدية الحادة التى كلفته تهمة «معاداة السامية» على فضح السردية الصهيونية، حيث يلخص صورته عنها كحركة عنصرية واصفًا إياها بـ«الانتهازية» فى علاقتها مع داعميها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة. كان يرى أن السبب فى مأساة الفلسطينيين الدائمة هو أنهم لا يحظون بأى دعم دولى لسبب وجيه، كونهم لا يملكون الثروة أو السلطة، وبالتالى ليس لديهم حقوق. من ضمن إنجازات تشومسكى «العالم» أنه أنشأ قواعد النحو التحويلى، وهو نظام يصف بدقة الأحكام التى تحدد كل الجمل التى يمكن تكوينها فى أى لغة، قامت نظريته على أن كل إنسان يعرف المبادئ العامة للغة منذ مولده، وأن هذه المبادئ موجودة فى كل لغة، لتكون قواعد شاملة لها، طوّر هذه النظرية، لأنه كان لا يتفق مع الفكرة القائلة إن الأطفال يتعلمون الكلام بتقليدهم للآخرين فحسب. كان التعلم بالتقليد فى نظره، لا يوضح الكيفية التى يكوّن بها الأشخاص جُملًا لم تُستعمل من قبل على الإطلاق. وكان يعتقد أن سماع اللغة المتكلم بها يعمل على تحفيز المقدرة اللغوية الموجودة لدى الطفل منذ المولد.