رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الغربي عمران يكتب.. قصص مزجت بين الغرائبية والأنوثة المستلبة في مجموعة "الثلث الأخير من الليل"

الغربي عمران
الغربي عمران

الكاتبة القاصة، الروائية العزيزة عزة دياب، شكرًا أن أهديتني نسخة من إصدارك الجديد "الثلث الأخير من الليل"،  الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2024، والتي ضمت ثماني عشرة قصة قصيرة، تنوعت بين العاطفية والغرائبية ليجمعها الهم الاجتماعي، ليتجلى الرجل جلادًا والمرأة الضحية، في ظل منظومة ذكورية تستمد منهج الدين والعادات والتقاليد؛ لينتج مجتمعًا معاقًا يعتبر المرأة كائنًا مستلبًا، يعيش رهن إرادة الرجل كتابع ليس إلا.

إذا تجاوزنا العتبات، يمكننا مناقشة ما يلفت الانتباه في قصص المجموعة، ومن ذلك: الراوي، الثنائية، المشهدية، الغرائبية...
 الراوي
سردت الكاتبة جميع قصص المجموعة بصوت راو أنثوي مشارك، أي أن الشخصية الرئيسية في كل قصة هي من تسرد، عدى قصة بعنوان "العربة" حيث أرادته عليمًا "أنتفض الولد المحموم قائلًا: العربة تحركت" ولم تكرر ذلك.
وصوت المشارك الأنثوي، مثل: "لم يهمس والدي في حضوري أو غيابي  بأن هناك من تقدم لخطبتي". "من نافذتي الضيقة رأيت أمي تطل من فرجة السماء، كانت الفرجة ضيقة بالكاد يظهر منها وجهها".
أستمر ضمير المتكلم كشخصية مشاركة، وشخصية محورية لجميع القصص، حين تحكي بأسلوب سلس وممتع، معتمدة الإيجاز والاختصار، فلا يوجد سطر فائض، بل ولا جملة واحدة زائدة، تلك القصص التي أبرزت الكاتبة  فيها المرأة كأم، وابنة، زوجة وأرملة، مطلقة، وعاشقة، موظفة، وطالبة؛ غير أن المرأة الأديبة أخذت حيزًا واسعًا، حين ناقشت في أكثر من قصة معاناتها، تلك المعاناة التي تتكبدها ممن حولها: زوجًا وأبا وأمًا، ومجتمعًا، وكأنها كائن غريب لا يحق لها تحقيق ما تحلم به. 
ثنائية
المرأة لا تظهر في قصص المجموعة إلا ليظهر رجل، وكأنها ثيمة تشترك فيها جميع قصص المجموعة، إذ تتصاعد تلك العلاقة بين الأثنين، لتأخذ تلك الثنائية المساحة الأوسع في معظم القصص، ثنائية آدم وحواء، عدى ثلاثة أو أربع قصص، منها قصة "الثلث الأخير من الليل" و"صباح غائم" و"العربة" إذ أن المرأة ظهرت دون قرين أو من تميل إليه عاطفيًا، بينما في بقية قصص المجموعة، برزت تلك العلاقات الثنائية بشكل رئيسي، فمثلًا في قصة انبعاج " أعرف أن صاحبي يستغلني، وجدني نافذة للاستدانة مع التسهيلات في السداد المؤجل،  عندما جاء يقترض مالًا لم يخطر بباله وصوله  إلى فراشي"، في هذه القصة نجد الفتاة هي التي تصطاد من تريد، فتاة ترى زميلاتها وأخواتها يتخاطفهن الشباب لتتزوج تلك وتخطب هذه، بينما هي تقف ويمر العمر أمامها دون أن يطرق بابها خطيب، فتوظف ما ادخرته من مال ليكون طعمًا لمن تريد جلبه إلى فراشها؛  وهي قصة تصور قسوة العنوسة، وحاجة المرأة لرجل يشاركها العاطفة والرغبات المكبوتة. 
بينما في قصة أخرى بعنوان الحافلة  نجد الوضع يتغير، فالرجل هنا يستغل عانسًا في عمر أمه، معبرًا لها عن عاطفته وهيامه بها، فيتزوجها تحت دهشة محيطهم بل ومعارضة الأقربين، لتتكشف النوايا، وهو من يطلب منها جلب المواد التموينية للبيت، متذمرًا من ضيق الحال "طلب مني سحب مدخراتي البنكية، لأنه اتفق على المشاركة في سيارة نصف نقل قائلًا: يبقى لك حصة بفلوسك" ولا تكتشف أن صغر سنة كان مصيدة لسرقتها، وأن تلك المشاعر التي كان يبديها ماهي إلا لسرقتها، وفي النهاية حصل على ما أراد، فتركها وتزوج بأخرى في مثل سنه.

عزة دياب

وهكذا نجد الثنائي أدم وحواء في قصص عزة، ذا طابع استغلالي، ففي قصة بعنوان "الفرار" مديرة حسناء يتصارع على موقعها الوظيفي زملاء وزميلات يرون أحقيتهم لخبرتهم وكبر سنهم، تشكو ما تواجهه لزوجها،  الذي يستعين بصديق ذي نفوذ، الذي بدوره أخلص في حمايتها بنفوذه، لكن الأمر أنقلب إلى محاولته استغلال دعمه لها بجرها إلى فراشه، بعد أن أصبحت على كل لسان في مقر عملها، حين يكرر زياراته،... زجرته لكنه كان متسلطًا، حين عبر لها أنها ملكه، فكرت أن تخبر زوجها، لكنها خشيت أن تكتشف نذالته "تعاقدت مع مكتب سفر للخليج، لن يكون الأجر مغريًا لكنه الفرار، تركت أولادي في رعاية أمي إلى أن ينهي زوجي إجراءات سفرهم، ويلحق بي في أقرب وقت". 

تلك القصص وقصص أخرى تعري إعاقات مجتمعية، وعاهات ذكورية لأرملة تستغل فتحمل وتجهض، وأرملة تكبت غرائزها خوف أن تطرد من شقة زوجها الفقيد حين يظهر في حياتها ذكر سواء بالزواج أو العلاقات الثنائية، تعدد الكاتبة معالجاتها لأوضاع إنسانية لكائن تابع، مهدور الكرامة من قبل المجتمع، وكأنه لم يخلق إلا ليرضي الرجل، أوكتكملة له.  

في قصص أخرى سلطت الكاتبة الضوء على معاناة الأديبات من خلال قصة "الضباب" إذ نجد أن حواء الأديبة هنا تعاني من آدمها، فنجده يمزق كتبها، بل ويرميها في الشارع لتنثرها  الريح قصاصات "في هذا الصباح قرر زوجي وضع النقاط على الحروف. قال: انسي حكاية الندوات وكتابة القصص، بلاش كلام فارغ. قلت: عندي ندوة مهمة الأسبوع القادم؛  قذفني بطبق الخوخ، طبق من الخزف الأبيض، ملأته بالخوخ ووضعته ليلة أمس على الطاولة".

في قصة أخرى أعين العجائز "عجزت طيلة الوقت عن حضور حفل توقيع لكتاب من كتبي، أرسل القصص والروايات سرًا إلى دار النشر، وعندما يخرج كتاب لي من المطبعة يهنئني البعيدون وفي البيت أخفيه في الدولاب تحت الملابس، أو تحت الأسّرة كان ذلك من أجل السلام العائلي". 

تلك القصص وقصص أخرى تعالج فيها الكاتبة قضايا بين الثنائي آدم وحواء غير أن الكاتبة تظهر في إحدى القصص تحكي عن مواقف من حياتها، كشخصية حقيقية، وبصورة مباشرة، خاصة في قصة "بقع الحبر"، حين عددت أعمالها الصادرة ضمن تصاعد أحداث القصة "لكل بقعة حبر ذكرى، البقعة الكبيرة حدثت أثناء كتابة رواية ’حارس الموتى’، في الفصل الذي قتل فيه الأستاذ عبده توقفت مشدوهة أمام فاجعة حمدية، حين تراه معلقًا على شجرة المقبرة". وفي جمل تالية "الأخرى المنحرفة إلى اليسار كانت في كتابة مونودراما ’امرأة غيري’، وقتها توقفت مع نانا وهي تقرر أن تعيش، ولكن كيف تأخذ وقد تعودت دومًا أن تعطي".

في تلك الأعمال السردية التي ذكرتها معروف أن الشخصية الرئيسية فيها هي للكاتبة، وهكذا تأتي على أسباب بقع الحبر على المفرش، وتذكر الأسباب، بل وتذهب إلى ذلك القلم الذي كانت تكتب به، ومن حبره صنع تلك البقع، الذي حصلت عليه من أديب عربي أثناء لقائهم وتعارفهم في إحدى المهرجانات الأدبية.

المشهدية

هنا تبرز الكاتبة كشخصية قصصية، ومنها قصة "صباح غائم" حيث استخدمت في بناء هذه القصة اللقطة السينمائية، أو المشهد المسرحي، إذ يجد القارئ ذاته يسير ضمن فريق صحي مكلف بزيارة إحدى الحالات المصابة بكورونا، أعضاء فريق في شوارع  وأزقة حي قديم، حتى ركوب النهر إلى البر الآخر، تصف الكاتبة سير الفريق ساعة بساعة، وتصف كل صغيرة وكبيرة وكأنها ترصد كل ذلك بعين كاميرا ليعيش القارئ تلك المعاناة لحظة بلحظة، وكأنه عضو في الفريق، غير أننا نكتشف أن من تسرد وهي عضوة في الفريق الصحي كاتبة "أعود إلى شخصيات روايتي المركونة، ماذا سيفعلون إذا لم يجدوني؟! هل، سيبحثون عني؟! أم سيكتبون هم روايتهم؟! أتخيلهم يصعدون درج الرواية متفادين الدرجة المكسورة والدرابزين المتداعي".

تقنية وصف حركة الفرد، أو الشارع، أو مايدور أتبعته الكاتبة في أكثر قصصها، بفنية عالية، ليرى القارئ ويشارك تلك اللقطات اللفظية والمشاهد الوصفية ويعيش إيقاع مجتمع يعيش على حافة مغامرة كبرى. 

كان الوصف دقيقًا ومشهديًا، مثال على ذلك من قصة الثلث الأخير من الليل "بائعة البطاطا تحمل سبتًا على رأسها، مرتدية جلبابًا مزينًا بقطان ملون على الذيل والصدر، وتعصب رأسها بمنديل مزهر بالورد البلدي تضع حاوية من القش وفوقها السبت..."ومن نفس القصة "بائع الأسماك المتجول ينادي على البلطي: أقلي واشوي يابت. ينغم النداء، تتسرب المياه من ثقوب صنعها في عربته الخشب المغطاة بطبقة معدنية، ليتخلص من مياه الثلج، وكأنه يخط أثرًا يدل عليه إن تجاوز الشارع"

الغرائبي

نكرر الاستشهاد بمقطع من قصة "صباح غائم" حين تذهب الكاتبة بقارئها إلى عوالم اللا معقول، أو العجائبي  "أعود إلى شخصيات روايتي المركونة، ماذا سيفعلون إذا لم يجدوني؟! هلى سيبحثون عني؟! أم سيكتبون هم روايتهم؟! أتخيلهم يصعدون درج الرواية متفادين الدرجة المكسورة والدرابزين المتداعي" ليعيش تخييلها ككاتبة، وكأن شخصيات روايتها من لحم ودوم، متسائلة ومتصورة تصرفات شخصيات من وحي خيالها، كما لو كان لها إرادة وحرية المضي بعيدًا عما تريده الكاتبة. 

السرد العجائبي الذي لجأت إليه الكاتبة، لا يقتصر على ذلك المقطع في قصة "صباح غائم"، بل نجده في قصص أخرى، مثل قصة "الأرجوحة" وقصة "بائع الصور" وكذلك قصة "السوق" وغيرها. فمثلًا نقتطع بضع جمل من بائع الصور "أخذ يفرد الصور الواحدة بعد الأخرى، أيقظتني زميلتي التي تمثل الدمعة الأخرى وقالت: فرصة، أهربي من اللوحة وهو يعرضها. قلت: وأنت؟ ألا تأتين معي؟

قالت: لا، تعودت على الانتظار، وحين يأكلني الملل يريحني كرسي الدموع". ومن قصة السوق "ما أدهشني أنه مات منذ عشر سنوات واليوم أراه كما كان في سن طفولتي، همست لنفسي قد يكون ابنه أو اخوه، رؤيتي له جعلتني أشعر أن الزمن لم يمر، والناس الذيي اعرفهم لم يموتوا" وهكذا تجد أنها تصادف رؤية ابن بائع المخلل، الذي مات منذ شهور، وكذلك بائعة الخبز التي كانت تعرفها، أثناء مرورها في السوق، تمزج الكاتبة المعقول باللا معقول، داعية القارئ إلى مشاركتها البحث عن أجوبة لتساؤلاتها، وتعجبها المدهش.

شكرًا للروائية المتجددة عزة دياب على اتحافنا بمجموعة قصص جريئة في تناول قضايا ذات دلالات إنسانية عميقة وبأسلوب فني مشوق.

*الغربي عمران، كاتب، روائي من اليمن.

*عزة دياب: عضو اتحاد كتاب مصر، عضو نادي القصة.