رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السلام الحائر.. بين نتنياهو والسنوار

عقيدتان تحكمان إمكانية الوصول إلى اتفاق وقف دائم لإطلاق النار فى قطاع غزة من عدمه، وعودة الهدوء أو انعدامه إلى هذا القطاع الذى أصبح أثرًا بعد عين، واستُشهد قرابة الأربعين ألفًا من أطفاله ونسائه ورجاله وشيوخه، بالإضافة إلى نحو عشرة آلاف آخرين ما زالوا تحت الأنقاض، ومعهم، أُصيب قرابة المائة ألف، بعضهم مهدد بالموت، بعد وقف دخول المساعدات الإنسانية إلى أهالى القطاع، الذين يعانون من مجاعة قاتلة، ونقص فى الإمدادات الطبية اللازمة لمواجهة العدد المتزايد من الجرحى، بعد أن ضاقت الأرض عن استيعاب الرقم المتزايد من الشهداء فى كل يوم.
العقيدة الأولى يعتنقها بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، وحكومته المتطرفة، التى تؤمن بأن إبادة هذا الشعب عن كامله وتدمير بنية القطاع التحتية والفوقية، والقضاء على حماس، هى سبيل الحفاظ على بقاء الدولة العبرية.. والثانية، يعتنقها يحيى السنوار، القائد العسكرى لحركة حماس فى غزة، الذى قاوم الضغوط من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار واحتجاز الرهائن مع إسرائيل، والذى تُظهر الرسائل التى أرسلها إلى الوسطاء، حسابات مفادها أن المزيد من القتال يأتى لصالح المقاومة والقضية.. قال السنوار، فى رسالة حديثه إلى مسئولى حماس، الذين يسعون للتوسط فى اتفاق مع المسئولين القطريين والمصريين: «لدينا الإسرائيليون حيث نريدهم».. مع أن القتال بين القوات الإسرائيلية ومقاتلى حماس فى جنوب قطاع غزة أدى إلى تعطيل شحنات المساعدات الإنسانية، وتسبب فى تزايد الخسائر فى صفوف المدنيين، وتكثيف الانتقادات الدولية ضد إسرائيل.
فى عشرات الرسائل- التى استعرضتها صحيفة وول ستريت جورنال- والتى نقلها السنوار إلى مفاوضى وقف إطلاق النار، وإلى مواطنى حماس خارج غزة وآخرين، أوضح أنه يعتقد أن إسرائيل لديها الكثير لتخسره من الحرب مع حماس.. وفى إحدى الرسائل الموجهة إلى قادة حماس فى الدوحة، أشار السنوار إلى الخسائر المدنية فى صراعات التحرير الوطنى فى أماكن مثل الجزائر، حيث مات أكثر من مليون شهيد وهم يقاتلون من أجل الاستقلال عن فرنسا، قائلًا: «هذه تضحيات ضرورية».. وفى رسالته إلى رئيس المكتب السياسى لحماس، إسماعيل هنية، بعد مقتل ثلاثة من أبناء هنية البالغين فى غارة جوية إسرائيلية، كتب السنوار أن موتهم ومقتل الفلسطينيين الآخرين «سيبُث الحياة فى عروق هذه الأمة، ويدفعها إلى الارتقاء إلى مستوى أعلى.. مجدها وشرفها».. والسنوار هنا، ليس الزعيم الفلسطينى الأول الذى يتبنى المقاومة، وسيلةً للضغط على إسرائيل، لكن حجم الأضرار الجانبية فى هذه الحرب- مقتل المدنيين والدمار الذى أحدثته- لم يسبق له مثيل بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
إسرائيل تكرر رفضها وقف الهجوم على غزة لاستئناف محادثات إطلاق سراح الرهائن مع حماس، بعد أن قالت قطر إنها قدمت للنشطاء الفلسطينيين اقتراح هدنة تدعمه الولايات المتحدة.. وتعثرت جهود إنهاء الحرب المستمرة منذ نحو ثمانية أشهر، بسبب هدف إسرائيل المعلن، بالقضاء على حماس كقوة حاكمة وعسكرية، «أى مفاوضات مع حماس ستجرى فقط تحت النار»، هكذا لخص يوآف جالانت، وزير الدفاع فى حكومة نتنياهو موقف تل أبيب، فى تصريحات نقلتها وسائل إعلام إسرائيلية، فى حين لم تُبد حماس أى مؤشر على أنها ستتنحى وتريد إلغاء الهجوم الإسرائيلى... ولم تقل إسرائيل أو حماس، بشكل قاطع، ما إذا كانتا ستقبلان أو ترفضان اقتراحًا حدده الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ولكن يبدو أنهما لا تزالان عالقتين فى خلاف حول قضايا أساسية.. فما هى وجهة نظر كل طرف، فيما أثاره بايدن من آمال عندما أيد خطة قال إنها قد تؤدى إلى «وقف الأعمال العدائية بشكل دائم.. وقال إن إسرائيل هى من طرحتها»؟!
وهنا، نُذكر بأن ما طرحه بايدن يتضمن ثلاث مراحل.. الأولى، من بين أمور أخرى، ستنسحب إسرائيل من المراكز السكانية فى غزة خلال وقف إطلاق النار لمدة ستة أسابيع، وسيتم تبادل عشرات النساء والرهائن المسنين المحتجزين فى غزة من قبل حماس وحلفائها، مقابل مئات المعتقلين الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية.. وخلال ذلك الوقت، ستستمر المحادثات حول وقف دائم لإطلاق النار، وإذا نجحت، ستدخل الصفقة المرحلة الثانية، مع الانسحاب الكامل للجيش الإسرائيلى من القطاع.. وسيتم إطلاق سراح جميع الرهائن والمزيد من السجناء الفلسطينيين.. وفى إطار المرحلة الثالثة، ستُعيد حماس جثث الرهائن الذين لقوا حتفهم، وستبدأ فترة إعادة إعمار مدتها ثلاث إلى خمس سنوات، بدعم من الولايات المتحدة والدول الأوروبية والمؤسسات الدولية.. فما هى مخاوف إسرائيل؟
إحدى الفجوات الرئيسية بين حماس وإسرائيل حول الخطة هى طول وقف إطلاق النار ودور حماس فى المستقبل.. قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنه منفتح على وقف إطلاق النار لمدة ستة أسابيع، وفقًا لشخص حضر اجتماعًا مغلقًا عقده مع المُشرعين الإسرائيليين.. لكنه قال علنًا، إن إسرائيل ستقاتل حتى يتم تدمير قدرات حماس الحاكمة والعسكرية.. وكما تم طرح الاقتراح، يبدو أن حماس ستجرى محادثات حول المرحلتين الثانية والثالثة مع إسرائيل، مما يشير إلى أنها ستحتفظ بقدر من السيطرة على غزة.. وقال نتنياهو مرارًا إن هذا خط أحمر، واستبعد أيضًا دورًا حاكمًا للسلطة الفلسطينية، وهى المنافس لحماس التى لديها سلطات حكم محدودة فى الضفة الغربية التى تحتلها إسرائيل.. هذا فى الوقت الذى يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلى ضغوطًا متنافسة من الولايات المتحدة وحلفاء آخرين لإنهاء الحرب، وعلى الجانب الآخر، من شريكين من اليمين المتطرف فى ائتلافه الحاكم- إيتمار بن غفير وسوميتريتش- هددا بإسقاط حكومته إذا وافقت إسرائيل على اتفاق من شأنه إنهاء الحرب دون القضاء على حماس.. وفى إشارة إلى هذا الضغط، قال أحدهما، وهو وزير الأمن الإسرائيلى اليمينى المتطرف، إيتمار بن غفير، إن حزبه سيواصل تعطيل ائتلاف نتنياهو، حتى ينشر تفاصيل الاقتراح.. فماذا عن حماس؟
قالت حماس إنها ترد «بشكل إيجابى» على الخطة، ولكن فى مؤتمر صحفي، قال أسامة حمدان، المتحدث باسم حماس، إن حماس أبلغت الوسطاء بأن الحركة لا يمكنها الموافقة على اتفاق لا ينص على وقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية و«صفقة جادة وحقيقية» لتبادل الأسرى الفلسطينيين مقابل الرهائن.. وفى اليوم نفسه، اتهم سامى أبوزهرى، عضو المكتب السياسى لحماس، إسرائيل بعدم الجدية بشأن التوصل إلى اتفاق، وقال إن البيت الأبيض يضغط على حماس على الرغم من «معرفته بأن المشكلة تكمن فى الإسرائيليين».. بينما يقول كثير من سكان غزة إنهم يائسون من أجل إنهاء الحرب، ويقول خبراء سياسيون إن قادة الحركة، بمن فيهم أكبر مسئوليها فى القطاع، يحيى السنوار، قد لا يكونون فى عجلة من أمرهم لإنهاء الصراع، معتبرين جزئيًا أن نفوذ حماس سيتضاءل بمجرد موافقتها على إطلاق سراح الرهائن.
«فقط من خلال الضغط العسكرى المكثَّف والمستمر، سنكون قادرين على إعادة بقية الرهائن إلى الوطن»، بهذا التصريح، سارع وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، إلى التغريد، فى أعقاب عملية تحرير أربعة رهائن محتجزين فى مخيم النصيرات للاجئين فى قطاع غزة.. وهو الوزير المسئول عن الوحدة الخاصة التابعة للشرطة «المعروفة بالعبرية باسم يمام»، والتى لعبت دورًا فى إنقاذ الرهائن وفقدت قائدها، أرنون زمورا، فى هذه العملية.. لكن من غير المحتمل أن يكون قد شارك فى صنع القرار أو الاستعدادات للعملية.. ويفكر بعض الذين ترأسوا ابن غفير فيما قبل، بشكل مختلف تمامًا عنه، إذ يرون من وجهة نظرهم أنه لن يكون من الممكن تحرير جميع الرهائن المائة وعشرين المتبقين بطريقة مماثلة.. ربما ستتاح لإسرائيل فرص أخرى لعمليات إنقاذ تنطوى بالمثل على مخاطر كبيرة.. ولكن بالنظر إلى معدل تحرير الرهائن من خلال العمل العسكرى منذ أكتوبر- سبعة منهم فى ثلاث عمليات منفصلة، وفشلت العديد من العمليات الأخرى- لا يوجد سبب للاعتقاد بأنه يمكن إطلاق سراحهم جميعًا بقوة السلاح.
وبدأ مسئولون كبار فى حماس بإطلاق تهديدات بأن المفاوضات حول صفقة إطلاق سراح الرهائن ستتضرر على الأرجح، بسبب العملية التى قتلت قرابة المائتين وسبعين شهيدًا، وحققت إصابات جماعية فى صفوف المدنيين فى النصيرات، بلغ عددهم أربعمائة شخص.. لكن فى الواقع، كانت المحادثات عالقة بالفعل.. إن وجهة نظر كبار ضباط الجيش، مثل كبار المسئولين فى وكالات الدفاع الأخرى، لا تزال كما كانت دائمًا: يجب على إسرائيل أن تحاول التفاوض على صفقة من شأنها أن تحرر جميع الرهائن، حتى مقابل ثمن باهظ، وحتى لو كانت حماس قادرة على تقديم الاتفاق على أنه إنجاز عسكرى وسياسى لها.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.