رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد الشهاوي: سارة حواس اتبعت بلاغة التنسك اللغوي في ترجماتها

جانب من اللقاء
جانب من اللقاء

تحدث الشاعر أحمد  الشهاوي، عن جماليات وفنيات ترجمة الشعر التي اتبعتها دكتورة سارة حواس، خلال مناقشة كتابها "ثقب المفتاح لا يري" في بيت الحكمة مساء أمس السبت.

أحمد الشهاوي: من المستحيلِ أن نعيشَ بلا شعرٍ

وقال “الشهاوي”: من السَّهل أن نقولَ إنَّ ترجمةَ الشِّعْر أمرٌ مستحيلٌ كما قال الجاحظ من قبل، لكنَّنا في الوقت نفسه نعرفُ أنَّ عدمَ ترجمته أمرٌ مستحيلٌ أيضًا؛ ولذا من المستحيلِ أن نعيشَ بلا شعرٍ، وأقصد بالشِّعْر هُنا "شعر الآخرين"، الذي لن نصلَ إليه من دُون وجودِ مترجمٍ ذكيٍّ عارفٍ حصيفٍ.

فترجمة الشِّعْر التي مُورست منذُ قرونٍ عديدةٍ، لا يمكنُ لها أن تتوقفَ؛ لأنَّ الإنسانَ بطبيعتهِ وفطرتهِ "كائنٌ شعريٌّ". وقيمة الترجمات الشِّعرية التي قرأناها تتفاوتُ من مترجمٍ إلى آخر، فأنا أعرفُ المترجمَ من اختياراته وانحيازاته، فالمترجم العارف يذهبُ نحو النصوص الكبيرة والخالدة والأسماء المُهمَّة في لغاتها.

وكل ترجمةٍ هي صياغةٌ تقريبيةٌ للنصِّ الأصلي، وبعض هذه الصياغات فيها من الأمانةِ للنصِّ أكثر ممَّا فيها من الجمال. وبعضها فيها من الجمال أكثرُ ممَّا فيها من الأمانة،والالتزام بحرفية النصِّ قد يؤدِّي إلى تشويه المعنى الذي قصدهُ الشاعر.

وأوضح “الشهاوي”: وقد التزمت دكتورة سارة حامد حوَّاس في ترجماتها بالبنيةِ الطبيعيةِ للجُملةِ العربيةِ، وليس ببنية الجُملةِ الإنجليزية، وقد تطلَّب الحرصُ على القراءةِ الطبيعيةِ إعادة ترتيب الأسطر الشِّعرية في بعض الأحيان، حتى بدا النصُّ الذي ترجمته سارة في أحيانٍ كثيرةٍ أصلًا أكثر من الأصل، فلا شكَّ أنَّ شيئًا من لُغة المترجمةِ قد دخلَ في نسيجِ القصيدةِ التي ترجمتها إلى العربية.

سارة حواس اتبعت بلاغة التنسك اللغوي في ترجماتها

اتبعت سارة حوَّاس بلاغة التنسُّكِ اللغوي، أو قل بلاغة الصَّمت، إذْ كانت مقتضبةً ومُكثَّفةً وموجِزةً في تعاملها مع النصِّ الشِّعْري، وكانت خياناتها في الترجمة مُحبَّبةً ومحمُولةً على الغُفران والشُّكر، حيث تعاملت مع المجازاتِ والإيقاعاتِ بذكاءٍ وحسٍّ عالييْن.

وقد ترجمت الشِّعْرَ الذي تحبُّه وتتفاعلُ معه؛ ورأت أنه لا بدَّ أن يكون هناك نوعٌ من التواصل الرُّوحي بين المترجم والنصِّ الذي يترجمُه، وهذا ما خفَّف من فقدان النصِّ الشِّعْري لهذه الرُّوحية التي يتضمَّنُها.

وتعرفُ سارة حوَّاس – حقَّ المعرفة – أنَّ الشِّعْرَ الحقيقيَّ دائمًا ما يحتفظُ بأشياءٍ من جمالياته ومعانيه، حتى لو دخل عملية "العنعنات" في الترجمة أي الترجمة عن لغاتٍ وسيطةٍ.

وتابع “الشهاوي”: وكان شعار الشاعرة والأكاديمية العراقية نازك الملائكة عندما تترجمُ شعرًا هو:«على الترجمة أن تكون حرفية بقدر المستطاع وحرة على قدر الحاجة»، وهنا سأستبدل الحرفيةَ بالأمانة مع عمل الكاتبة والأكاديمية سارة حامد حواس، وهي لا تُغالي في أمانتها حتى لا تتحولُ الترجمةُ إلى ترجمةٍ مدرسيةٍ أكاديميةٍ؛ لأنَّ الأمانةَ قد تصلح في أمورٍ أخرى في الحياة ليس من بينها الشِّعر، فالشعر اختراقٌ واحتراق وتجاوزٌ ولا معقول.

والترجمة دائمًا مسألة تأويلٍ مهما يكُن جنسُ الكتابة. فكل مترجمٍ مُؤوِّلٌ، وعملية التأويل هذه تتطلبُ تحليلا دقيقًا للنصِّ وفهمًا مُنظَّمًا لما فيه من تناصٍّ.

لأنَّ لكلِّ لغةٍ سماتها النغمية والصوتية المميزة، ومنطقها النحوي والتركيبي، وقد حاولت سارة حوَّاس واجتهدت في معرفة أسرار اللغتين خصوصًا موضع المفردة الشِّعرية في البناء النصي للقصيدة؛ لذا جاءت ترجماتُها بعيدةً عن الجمود وقصيةً عن الخُلو من الرُّوح، بمعنى آخر كثُر ماؤُها وتدفَّق، كما أنها حافظت على القيم الجمالية التي تعتمدُ على التركيب الشِّعري، والقيم التعبيرية في النصِّ الذي ترجمته، مثلما كانت حريصةً على بيئة الشَّاعر، حيثُ تقرأ مسيرةَ كل شاعرٍ وتاريخ حياته والدراسات التي تناولت شعرَهُ وتجربتَهُ؛ وتقفُ على أسرارِ نصِّه، والعوامل التي جعلته فريدًا أو مختلفًا بين مجايليه من الشُّعراء.

الشهاوي: كتاب سارة حواس "معملُ ترجمةٍ"

ولفت “الشهاوي” إلى: كتاب سارة حواس "معملُ ترجمةٍ"؛ لأنها تعاملت مع عشرين طريقةً في كتابة الشعر، حيثُ الاختلاف في اللغة الشعرية، والتعدُّد البناء والتنوُّع في الأسلوب والعالم الشعري؛ ولذا كان عليها أن توائم رُوحها مع تباين هذه العوالم واختلافاتها.

إن سارة حواس لم تعزف عن ترجمة الشعر بل ذهبت فيه إلى الأقصى في زمنٍ يعزفُ فيه أهلُ الشِّعر والترجمة عن ترجمة الشعر، أو قُل يتهيَّبُون هذا النوعَ من الترجمة ويخشونه، ويذهبُ معظمهم نحو ترجمة الرواية وكتب العلوم الإنسانية، فالترجمة عند سارة ليست مغامرةً محفوفةً بالمخاطر؛ لأنها غامرتْ وخاطرتْ، وصارتْ تسعى طوال الوقت إلى البناء.

وشدد “الشهاوي” علي: هذه مترجمة، الترجمة لديها تحدٍّ، فهي لا تنحُو نحو الوعُورة والاستغلاق التي نجدها عند كثيرين من الجيل السَّابق عليها في ترجمة الشِّعْر؛ لأنها تدركُ أنَّ الشِّعر يوحِي ولا يُصرِّحُ، ويومِئ ولا يبوحُ، وبدا إتقانها في كلِّ من الإيجاز والتكثيف، والحذف والذِكر، والتقديم والتأخير.

إنَّ العملَ الإبداعيَّ يستمرُ كلما كان قادرًا على الظهور بشكلٍ مخالفٍ للمظهر الذي قدَّمه فيه صاحبه، حسب تعبير الشَّاعر الفرنسي بول فاليري، والعمل الشعري الذي يصادفُ مترجما مثل الدكتورة سارة حوَّاس يُقدَّر له العيشُ والاستمرارية من دون روافع أخرى سوى الترجمة.

فعندما تترجمُ سارة حوَّاس ترى العالم بأكثر من عينين، على الرغم من وعيها اللافت بأنَّ صُعُوبة الترجمة ومشقَّتها تتبدَّى ظاهرةً في ترجمة الشِّعْر، ولذا فهي تنصتُ إلى المُكوِّنات والقيم الشِّعرية داخل النصِّ الشِّعْري، فلا استسهالَ في عملها، بل يرى المتلقِّي لترجماتها جدِّيةً وصرامةً وبحثًا دؤوبًا فيما وراء النصُوص والمحسُوسات من معانٍ تعبيريةً وقيمٍ جماليةٍ، مستلهمة ما تفيضُ به النفوس، وما ما يعتملُ في القلوب من مشاعر ووجدانيات.

واختتم “الشهاوي” مؤكدًا: ولعل جهد الدكتورة سارة حامد حوَّاس الأساسي فيما أنجزت من ترجماتٍ شعريةٍ من الإنجليزية إلى العربية، ومن العربية إلى الإنجليزية قد تركَّز في تطويع اللغة لتقبُّل المعاني الأجنبية قبولًا لا يظهرُ فيه شذوذٌ أو التواء، وجهدها الآخر في اندماجها مع من تترجمُ له، فتحسُّ بروحه وترى بعينيه، وتنطقُ بلسان تعبيره، وتكونُ في حال تطابقٍ حدّ الاتحاد، وأظنُّها الدرجة العليا في الترجمة، أو ما يمكن تسميته "النقل الإبداعي".

إن القصيدة المترجمة عند سارة حامد حوَّاس تصير نصا موازيا للقصيدة الأصلية، فالمترجم العارف من وجهة نظري يرتفع فوق النص الذي يترجمه بعدما يصبح متمكنا من كل مفاصله.

وإلى جانب إدراكها المعنى وظلاله والنصوص الغائبة الكامنة في النصِّ، فإنها تُحاولُ طَوال الوقت نقلَ الجو العام للنصِّ الشِّعري، مُستقرئةً المعاني الكامنة، مستنكهةً الخيارات الدلالية ولا تغفلُ الفروقَ الإيقاعيةَ في اللغتين المُترجَم منها والمُترجَم إليها.