رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بعد «رئيسى».. ماذا يحدث فى إيران الآن؟

 

كانت ليلة أمس الأول هى الأطول فى تاريخ إيران منذ عقود طويلة، ليلة البحث عن طائرة الرئيس الذى سقطت طائرته فى أكثر المناطق وعورة فى إيران، وهى إقليم «ورزقان»، الواقع على حدود أذربيجان الشرقية، حيث تصل درجة الحرارة إلى تحت الصفر، بالإضافة إلى هطول أمطار تصل إلى حد السيول، فضلًا عن أنها من المناطق الجبلية المتداخلة، ما جعل من مهمة البحث عن «إبراهيم رئيسى» أمرًا شبه مستحيل.

هناك سقط الرئيس وبصحبته وزير الخارجية، حسين أمير عبداللهيان.

النظام الإيرانى الآن فى حالة تخبط قد تكون الأولى من نوعها، فالأمر برمته مربك على مستوى التحليل أو اتخاذ القرار، فغياب الرجل الثانى فى الدولة، بعد المرشد أو الولى الفقيه «على خامنئى»، فى مرحلة تاريخية معقدة وخطيرة كالتى يعيشها الإقليم الآن، سيدخل النظام فى نفق من الفوضى السياسية قد تتسبب فى العديد من الإشكاليات السياسية والاجتماعية، خاصة أن «إبراهيم رئيسى» لم يكن بالرجل العادى، فهو من صقور النظام الإيرانى، والمرشحين بقوة لنيل منصب مرشد الثورة الإيرانية، بعد وفاة على خامنئى المرشد الحالى، وله تاريخ طويل من إثبات الولاء لنظام الولى الفقيه، خاصة فى مرحلة الثمانينيات حينما كان عضوًا فى «لجنة الموت»، التى عمدت إلى التخلص من كل التيارات المعارضة للثورة الإيرانية فى ذلك التوقيت، حيث وصل عدد الإعدامات آنذاك إلى ما يقارب الـ٣٠ ألفًا.

معادلة جديدة للنظام

آية الله إبراهيم رئيسى تولى الرئاسة عام ٢٠٢١، بعد «حسن روحانى» الممثل للتيار المعتدل أو شبه الإصلاحى، فتم التوافق على رئيسى من قبل التيار الأصولى الأكثر راديكالية ومحافظة على مبادئ الثورة الإيرانية، وكذلك الأصول المذهبية الشيعية المتشددة، فحمل الرجل على عاتقه أن يُسلم المجتمع بأكمله للتيار المتشدد، فى مقابل قمع كل التيارات المعتدلة أو المعارضة فى الداخل الإيرانى.

وبالفعل نجح فى ذلك، وسطع نجمه داخليًا، خاصة بين شباب الحوزة الدينية الذين يشكلون جماعة ضغط سياسى واجتماعى على النظام فى الداخل، بل على المجتمع بأكمله. فتحول إبراهيم رئيسى من منفذ لأجندات النظام، إلى شخصية متفردة، له مناصروه وأتباعه، بل شكل ما يشبه التيار المنفصل نسبيًا داخل أروقة النظام.

حضور إبراهيم رئيسى القوى داخل أروقة السياسة الإيرانية شكل تهديدًا واضحًا لبقية صقور النظام، على رأسهم «مجتبى خامنئى» ابن مرشد الثورة الإيرانية «على خامنئى»، الذى يملك هو الآخر كل الإمكانات ليحل محل والده خلال الفترة المقبلة، فصحة المرشد الإيرانى الحالى لا تنذر بخير فى القريب، ما استتبع ظهور العديد من المنافسين على منصب الإرشاد بين رجالات النظام الأقوياء.

ورغم ما يبدو عليه التيار الأصولى من وحدة، فإنهم ليسوا على قلب رجل واحد فيما يتعلق بقيادة إيران الفعلية تحت منصب الولى الفقيه، فهناك تيار يرى أحقية «مجتبى خامنئى» بوراثة منصب أبيه، وهناك من يطرح نفسه بشكل مباشر كبديل لخامنئى، بخلاف التيار الذى يسعى للسيطرة على مفاصل المجتمع من الداخل بغض النظر عمن سيخلف خامنئى. وغياب رئيسى عن الساحة سيجعلها فى حالة ميوعة سياسية معقدة، فرغم ميوله الأصولية، لكنه يحاول أن يصنع توازنًا بين أطراف الصراع داخل بيت الولى الفقيه، واضعين فى الاعتبار ما حققه رئيسى من شعبية بعد خوضه الصراع بشكل مباشر مع إسرائيل، خاصة فى أوساط المحافظين من الشباب، أو داخل بعض التيارات فى الشارع الإيرانى، تلك الشعبية قد تمثل خطرًا على العديدين ممن شكلوا هيكلية النظام.

فرغم أن الدستور الإيرانى يحدد خطوات غياب الرئيس بالعزل أو بالوفاة، فحسب المادة ١٣١ من الدستور، فإن النائب الأول هو من سيقوم بمهام الرئيس حال وفاته أو عزله، وسيتم تشكيل مجلس مكون من رئيس مجلس الشورى «البرلمان»، ورئيس السلطة القضائية، والنائب الأول «وهو فى حالة رئيسى، محمد مخبر تسخيرى»، ودوره هو اتخاذ إجراءات لانتخاب رئيس جديد فى غضون ٥٠ يومًا. ورغم أن تلك الإجراءات قد بدأت بالفعل بمجرد وصول أخبار سقوط طائرة الرئيس- فإن العثور على شخص لديه القدرات التوافقية التى لدى رئيسى يعتبر أمرًا مستحيلًا، ما قد يزيد حدة الصراع بين أطياف الحياة السياسية فى إيران، للفوز بمنصب الرئيس.

انقسام المجتمع 

النظام الإيرانى لا يفوت فرصة، حتى وإن كانت مأساة بحجم حادثة رئيسى، إلا ويقدم الجانب الدينى كفكرة أصيلة، فقد دعا النظام إلى صلاة التوسل «الشيعية» لنجاة الرئيس، بل امتدت الدعوة إلى كل الميليشيات الشيعية فى الجوار العربى، مثل الحوثيين وحزب الله والحشد الشعبى، فأُقيمت الصلاة والدعاء فى معظم الحسينيات والأضرحة الشيعية فى إيران، واجتمع طلاب الحوزة وقوات الباسيج «التعبئة» فى صلاة مذهبية، للتوسل بالأئمة الشيعة لنجاة رئيسى.

استغلال الجانب الدينى كان استعراضيًا من الأساس، فقد حاول النظام أن يستعرض تماسكًا وهميًا للمجتمع من الداخل، وإرسال رسالة واضحة لكل تيارات المعارضة فى الداخل أن الدولة تملك أدواتها العقابية حال حدوث أى تسيب اجتماعى، أو مظاهرات مفترضة، خاصة أن هيبة النظام وقوته أصبحتا على المحك.

فقد ظهر على مواقع التواصل الاجتماعى العديد من الانتقادات حول قدرة النظام على تأمين شخص بحجم رئيس الجمهورية، أو على الأقل كفاءة الأجهزة الأمنية وأجهزة الدولة بشكل عام على الحفاظ على رجاله، فى مقابل ظهور فرحة عارمة لزوال رئيسى، من بعض تيارات المعارضة الداخلية، خاصة بين الشباب ذوى الأفكار المنفتحة نسبيًا، والرافضين سلطة الحكم الدينى، وانسحبت تلك الرؤية على الأقليات العرقية كالأكراد فى إيران، أو عرقية البلوش، الذى أسهم رئيسى فى قمعهم خلال الفترة السابقة تحديدًا بعد أزمة العملية الإرهابية فى كرمان، التى تم إلقاء الاتهام فيها على جماعة «جيش العدل».

مؤامرة أم الطقس القاتل؟

يرى أصحاب نظرية المؤامرة أن ما حدث لإبراهيم رئيسى وحسين أمير عبداللهيان لا يخرج عن كونه مؤامرة تعمدت اغتيال الرئيس، ولهذه النظرة لها منطقها الخاص:

أولًا: الاتهام المباشر لإسرائيل، خاصة فى حال الصراع السياسى بين الدولتين، الذى وصل إلى صدام عسكرى، فقد تكون إسرائيل قد أسهمت بشكل أو بآخر فى اغتيال رئيسى، كعمل انتقامى ضد النظام الإيرانى، وصنع حالة من البلبلة السياسية فى الداخل الإيرانى.

ثانيًا: الصراعات السياسية والتاريخية بين دولة أذربيجان الغربية والدولة الإيرانية، فقد أسهمت إيران تاريخيًا فى الصراعات العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا، حينما ناصر النظام الإيرانى أرمينيا ضد أذربيجان، فالأمر من وجهة النظر هذه ينفى فكرة المصادفة بأن تتم إسقاط طائرة الرئيس أثناء وجوده على الحدود الأذربيجانية، خاصة أن علاقة أذربيجان بإسرائيل علاقة ذات أصول براجماتية قوية.

ثالثًا: الموكب الرئاسى يتكون من ثلاث طائرات مروحية، فلماذا تصل طائرتان وتسقط طائرة الرئيس؟!، خاصة مع توارد أنباء غير رسمية عن أن قائد طائرة الرئيس قد أغلق جهاز الاتصال اللاسكى قبل سقوط الطائرة بوقت كبير، وبالتالى انقطع الاتصال عن جهات متابعة الطائرة.

لكن فى الأغلب لن يتبنى النظام الإيرانى نظرية المؤامرة، أو أن العملية مرتبطة بحادث إرهابى، حتى لا يكشف عن اختراقه أو ضعفه؛ فسيتم الاعتماد على الرواية الإعلامية التى أدانت طبيعة الطقس فى ذلك التوقيت من العام فى إيران، وامتداد السيول لعدة مدن داخل إيران، وطبيعة المنطقة التى سقطت فيها الطائرة.

وبعيدًا عن نظرية المؤامرة، فإن غياب رئيسى سيؤدى إلى خلل كبير فى المنظومة السياسية فى الداخل، بل سينعكس خارجيًا بشكل كبير، خاصة فى ظل منطقة مشتعلة، ومحاولات النظام الإيرانى أن يستعرض نفوذه العسكرى والسياسى على المستوى الإقليمى وتحقيق أكبر المكاسب الممكنة فى ملف المفاوضات النووية.

كل تلك الملفات سوف تتوقف وقد تتغير إدارة الملفات الخارجية تبعًا لإعادة ترتيب الملفات فى الداخل، فإيران على وشك مرحلة من عدم الاتزان وبعثرة أوراق اللعب.