أيمن السميرى يكتب: آمالنا المؤجلة فى سيرة خالد منتصر
لا يمكنك إلا أن ترى نفسك فى حكاية الدكتور خالد منتصر وآماله، أو للدقة آمالنا المؤجلة. بعنوان إيحائى مدهش، يتجاوز كتاب «خلف خطوط الذاكرة.. سيرة ذاتية لجيل الآمال المؤجلة»؛ كونه استدعاء من كاتب لرحلة حياته، ومحطات الألم والأمل، فيها مع اليتم بفقدان الأم التى لم يرها، وتغريبة الأب الطويلة بعيدًا، يتجاوز ذلك كله ليصبح كتابًا ربما عن سيرتنا جميعًا، حكايتنا غير المروية، سيرة التحولات الكبرى التى غيرت وجه مصر، وتلاعبت بالجينوم والضفيرة الحضارية للأمة المصرية.
هذه سيرة الخاص جدًا والحميمى، الذى التحم بالعام، فصار إدانة مكتملة لانكسار جيل، عاش الأحلام الكبيرة، والكوابيس الأكبر. رحلة تمضى بين سطورها لتدرك أن اليتم الذى سببه رحيل الأم «سعاد» فى عشريناتها، تركت طفلًا كل ما يمتلكه هو ذاكرة بيضاء تستدعى صورتها البهية، ليصبح حضور الأم جزءًا من الذاكرة مبكرًا جدًا، يسلمه الألم للتساؤل، والاشتباك مبكرًا مع الحياة بفقد الأخت غرقًا، والعودة من الدقى إلى قرية الشعراء بدمياط، حيث تتشكل ملامح نظرته للوجود بالدهشة، والتفاعل مع كل مفردات واقعه الجديد، لا يمكنك إلا أن تتوقف أمام محطات الألم فى هذه السيرة، لطفل استعادته القرية خلال تغريبة الأب الطويلة فى ليبيا كخبير فى الطب البشرى، والأدلة الجنائية مع أسرته الجديدة. كان على الطفل أن يكتشف عالمه بما يمتلك من دهشة وتساؤل، تستدعى السطور ذلك الحزن الخفى، والشجن لولد يعاين يتمه مبكرًا بين عالمين متباعدين؛ عالم حى الدقى الراقى، وعالم قرية الشعراء المحافظ، يعاين الطفل عادات محيطه من الختان إلى القهر الإنسانى بكل مستوياته فى بيئة محافظة شديدة الانغلاق، لكنه لا ينسى صورها المشرقة فى هذا الزمن من الرضا، وصور الفلاحات بملابسهن الزاهية، بألوان النيل والخضرة والشمس، الناس وحكاياتهم المكرورة عن الزمن والقدر والموت. يستدعى كيف تحول المشهد فى الريف إلى السواد والانكفاء على ثقافة الموت والقبور؟ تمضى السيرة البسيطة ببساطة عدد صفحاتها؛ راصدة كل مفردات تحول مجتمع، بالعروج على فترات الجامعة فى السبعينيات وتغول الجماعات الإسلامية، وتربصها بالأنشطة الفنية والمسرحية والحفلات الطلابية، ثم سيطرتها التامة على الحياة الجامعية طلابًا وهيئات تدريس، وابتزازها المجتمع بطرح رؤية مختلفة ضيقة للدين. يشتبك الشاب منتصر فكريًا ومبكرًا مع هذا التغول، الذى رآه مقدمات لطمس وجه مصر المسالم الحضارى، وهو اشتباك لم يسع إليه، فقد سجل حضور التدين العنيف الصدامى حضوره وهيمنته فى اليوميات المصرية، الأمر الذى استدعى من كل صاحب رأى أن يواجه ذلك، حتى لو تعرض للوصم، بأنه يواجه الدين الذى يتخفى خلفه هذا التيار، بأفكاره الرجعية المجلوبة من عصور الظلام. واجه خالد منتصر هذا التسونامى الرجعى من منطلق إنسانى محض يتجاوز كل عقد الأيديولوجيا والدوجما وتأويلات المعتقد، واجهه بمحاولة تفكيك الأطروحات العنيفة الجهادية لهذا التيار. تلمح بين سطور السيرة حجم العسف، والوصم الذى تعرض لهما صاحبها، بالمطاردة والسب، والطعن فيما يؤمن به، لكنه بقى على مدار خطوط السيرة يتعالى على ذلك، مواصلًا اشتباكه مع الخرافة والتغييب، وكل محاولة لتغيير وطمس طبيعة مصر والمصريين المتسامحة، المحبة لوجودها على هذه الجغرافيا العبقرية بتاريخها وآمالها العظمى. سنكتشف بسهولة كيف انصهرت، ونضجت تلك العجينة الفكرية مبكرًا، لتكتمل فى كلية الطب مع المرضى، وآلامهم والتأثر بأساتذة عظام كالدكتور مفيد سعيد، والدكتور هاشم فؤاد، اللذين تركا تأثيرهما الإنسانى قبل المهنى على روح خالد منتصر. من هذا الحس انطلق صاحب السيرة إلى المجال الإبداعى، بالكتابة والدراما الإذاعية فى البدايات، ومنها إلى تجارب صحفية فارقة فى روزاليوسف، المؤسسة التى منحته مساحة أكبر من الحرية؛ ليتفاعل مع قضايا مجتمعية وفكرية، ويشتبك مع محظورات وقضايا جالبة للمتاعب، ليس أقلها هيمنة الفهم الرجعى الدينى على الفضاء العام، وتأثيراته الكارثية على الوعى الجمعى، ولعل ما آلت إليه الأمور، يثبت إلى أى مدى كان الإنذار المبكر من أقلام تنويرية كقلم منتصر، كان بمثابة صرخة أو كما يقال فى الأدبيات الغربية تنبيه استيقاظ Wake up call لوعى الأمة المصرية أن تستعيد مكنونها الحضارى، كمحطة انطلاق نحو المشاركة الإنسانية فى عالم جديد يتجاوز العصاب الدينى، والدوجما، واحتكار الحقيقة. «خلف خطوط الذاكرة - سيرة ذاتية لجيل الآمال المؤجلة» للدكتور خالد منتصر سردية شجنية، تستدعى الواقع بكل خيباته وانكساراته، تستدعى الألم بكل مرارته، لكنها فى السياق نفسه تبشر بمصر أخرى إنسانية ناهضة متحضرة بوعى جديد، وإحياء يستدعى قواها الناعمة الحضارية. الكتاب رحلة ممتعة، سيرى القارئ بدرجة ما نفسه وواقعه فيها ماثلًا، من خلال هذا المزج الفنى الحاذق بين الخاص والعام فيها.