رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صوت العرب من القاهرة

ليالى بدر - فلسطين
ليالى بدر - فلسطين

فى بيتنا فى أريحا، نشأنا فى أوائل الستينيات مع الاستماع إلى إذاعة صوت العرب، أو إذاعة الشرق الأوسط من القاهرة. لا أنسى أغنية أحد مسلسلات رمضان الشيخ شخبوط قلع الزعبوط ونزل بريطانيا يلم نقوط. كنا نسمعها ونضحك ونغنيها كلنا. 

بابا يقول إن علينا خفض صوت الراديو وإغلاق الأبواب جيدًا؛ حتى لا يعرف المخبرون أننا نستمع سِرًا خطب عبدالناصر، وتعليقات أحمد سعيد، وأغانى عبدالحليم وشادية وشريفة فاضل وفوازير رمضان «ألف ليلة وليلة»، وأغنية «وطنى حبيبى» التى حفظناها جميعًا. كنتُ أصغر من أن أفهم ماذا يقول عبدالناصر، لكنى ما زلت أتذكر كلمات مثل الوحدة والعرب والحرية. كانت أختى الكبرى تضع صور عبدالناصر تحت زجاج الكومودينو الملاصق لسريرها، صورًا بطوله الكامل، وأخرى وهو يزرع شجرة، وواحدة لوجهه فقط.

عندما عاد أبى من السفر حاملًا جهاز تسجيل صغيرًا. أيامها كانت المسجلات كبيرة وضخمة. نادى: «يا بنات». كنتُ أولى الراكضات لأرى الجهاز ببكراته الصغيرة، بنية اللون؛ وضع بابا الشريط وضغط الزر فانطلقت الموسيقى. قال لى هذه موسيقى كارمن لبيزيه. ماذا تتخيلين وأنتِ تسمعينها؟ صمتُ، ولم أتخيل شيئًا. قال بابا إنها تحكى قصة عن الغجر وهم يشعلون النار فى الليل ويرقصون. ساعتها تمنيت أن أكون غجرية أسافر وأرقص معهم. ارتبطت كثيرًا بعدها بالموسيقى وصرتُ أعتقد أنها إبداع ربانى منحه الله للبشر؛ حتى إننى تصوّرت أن يوم القيامة ستكون هناك سيمفونيات تعزف لهذا الحدث العظيم.

ذات يوم، كنتُ ألعب مع العصابة فى الحديقة الخلفية للمدرسة ولم نسمع صوت جرس بداية الدوام، نظرت مديرتنا الحازمة ست «حكمت» إلى طابور المدرسة، فلم تر صبيًا واحدًا، وطبعًا كنا أنا ونائلة ضمن الغائبين، أرسلت فورًا ببنت من الإعدادى لتحضرنا. كانت البنت ترتعش من فكرة العقاب الذى ينتظرنا، فمن لا يعرف قسوة ست حكمت وفداحة عقابها؟ دخلنا مسرعين إلى طابور الصباح؛ لنشاهد ست حكمت تقف بتنورتها الكحلى الضيقة وقميصها الأبيض المنشى. وبإشارة صغيرة من يدها جعلتنا نقف على جانب الساحة، وسمحت لنا بالغناء مشيرة بإصبعها على فمها؛ لنشارك التلاميذ المصطفين نشيدنا اليومى الذى يذكرنا بوطننا الضائع.

كانت الأغانى تتحدث عن حيفا ويافا وعكا. اعتقدنا أن السماح لنا بالغناء هو مؤشر الغفران لتأخرنا، لكن ست حكمت جمعتنا فى غرفتها المهيبة، التى لا يرغب أحد بدخولها وحققت معنا ولامتنا. اعترفنا بالتأخير، لكننا أكدنا أننا لم نسمع صوت الجرس، ست حكمت قررت أنها ستضرب كلًا منا عصاتين على يديه. أخذ كل واحد من زملائى نصيبه فيما كنت أدفع الآخرين أمامى مؤجلة دورى. من يأخذ نصيبه يذهب فورًا إلى فصله وعندما جاء دورى قالت ست حكمت: افتحى يدك. لم أفتح يدى قلت لها «أنا مش غلطانة» لأنى لم أسمع الجرس وأنى كنت سأفتح يدى لو سمعته ولم أحضر. للحظات اعتقدت أنها اقتنعت خاصة عندما هزت رأسها الذى تخطه خصلة شيب وقورة عند الجبهة. لكنها قالت إن الآخرين أخذوا جزاءهم وعلىّ أن آخذ جزائى مثلهم. قلت لها أنا غير مذنبة ولن أقبل عقابًا لذنب لم أقترفه. خرجت ست حكمت من الغرفة وبعد لحظات دخلت معلمة صفى «ست نبيلة» وهى المفضلة عندى، قالت لى يا غرام افتحى يديك كلى هالعصا ويللا تعالى على صفك. أخبرتها بوجهة نظرى، قالت إنها مقتنعة، ولكن لا يصح أن أعامل بشكل مختلف عمن تمت معاقبتهم قبلى. قلت لها لن أفتح يدى ما دمت غير مذنبة. خرجت «ست نبيلة» وبقيت أنتظر وحدى وأتفرج على مكونات الغرفة المهيبة. بعد قليل دخلت «ست نبيلة» ومعها «ست حكمت» وأختى الكبرى التى وثقت دومًا بحبها لى، أمسكت يدى وهمست فى أذنى طالبة منى أن أفتح يدى لآخذ عقوبتى، وقالت هى تعرف وجهة نظرى، لكن علىّ أن أسمع الكلام وآكل العصاتين وسيمر الألم سريعًا وأنساه بعد دقائق، لكنى رفضت. قالت «ست حكمت» إن العصاتين أصبحتا أربع. تمسكت برفضى، قالت إنها ستضرب على أصابعى المغلقة، وفعلًا ضربتنى. بلعت دموعى متظاهرة بأنى لم أتألم وخرجت من مكتبها وقد صرت أدرك معنى الظلم.

بعدها، بقيت أجلس كل يوم على الرصيف المقابل لبوابة دار الطفل الحديدية السوداء والكبيرة جدًا. أقعد على حافة الرصيف المرفعة قليلًا عن الأرض وأنتظر. الآن ستفتح البوابة فلا تفتح. أنتظر. لا بد أنها ستفتح. يركض الحارس عمو محمود ليفتحها فتدخل سيارة. ثم تدخل سيارة أخرى. لكنى أنتظر سيارة بابا القرقعة الرمادية «السلحفاة كما نسميها». حتمًا سأراه يجلس خلف المقود وماما تجلس بجانبه. سيأتيان لا محالة. لكنهم لا يأتيان. أجلس فى اليوم التالى فى المكان نفسه. ستفتح البوابة، تدخل سيارة أخرى. إنها سيارة الوكالة تحضر بودرة الحليب الذى نشربه. اليوم الذى يليه لا تدخل أى سيارة. وأنا أعيد الانتظار فى اليوم التالى. لا بد أن يسأل ماما وبابا عنى. سأخبرهما بما فعلت ست حكمت. سأخبرهما بأنها ظلمتنى ضربتنى على أصابع يدى المغلقة. طبعًا كان علىَّ أن أقفل يدى. كيف أقبل ظلمها وأفتح يدى للمسطرة الخشبية الكبيرة لأتلقى العقاب لذنب لم أفعله.

من رواية: على يمين القلب