رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام الفساد!

فجر مسلسل «الحشاشين» حالة جدل واسعة بين جموع المصريين، وكثر البحث عن تاريخ تلك الجماعة، وانتشرت فيديوهات تحكى سيرتها، بعضها من متخصصين وأخرى لهواة، اتسم بعضها بالدقة وأخرى بالسطحية، مستغلين أصحاب تلك الفيديوهات حالة الاهتمام التى فرضها «الحشاشين» بمهارة إنتاجه ونجاحه فى تأدية مهمة التثقيف والتأريخ؛ كإحدى وظائف الدراما الناجحة.

ولأن التاريخ واحد من التخصصات العلمية التى تشهد تعديًا كبيرًا من غير المختصين، وتتصدى له أنواع مختلفة من البشر، منهم من يفتقد للتخصص أو الدراسة أو حتى الموهبة وتقتله البطالة، فاختار التاريخ كمصدر للرزق أو الربح والشهرة أيضًا، فتجد حركات كرفع الحواجب ومصمصمة الشفايف فى عرض وقائع تاريخية؛ بما لا يليق بمكانة تاريخنا ومجتمعنا، فما أكثر المواد التاريخية على مواقع البحث، وما أسهل الوصول إليها رغم خطورتها، فعدم الرجوع إلى مصادر موثقة أو تنطبق عليها شروط مناهج البحث العلمى لضمان دقة المعلومة وقربها من الحقيقة، ولا تحمل أغراضًا غير توثيق الوقائع والتاريخ.

وأنا واحد من الناس تستفزنى حالة تصدر بعض الشخصيات هذا التخصص المهم والخطير الذى ترتبط معلوماته بثوابتنا الوطنية، أو بشخصيات مهمة لها قدرها ومكانتها فى تاريخنا.

غير المختصين وغير الملتزمين بمنهج البحث التاريخى باستطاعتهم تحويل الخير إلى شر والحق إلى باطل، يضيفون وقائع وينكرون أخرى، والنتيجة النهائية هى الجور على تاريخ وطنى وتبييض مراحل تاريخية أخرى.

وللأسف أننا البلد الوحيد فى العالم الذى تجد فيه من تخصص فى مدح عصر احتلاله، وتجد من كرس حياته لتبييض وجه مراحل قهره وتجويعه وسرقة أملاكه، فى مقابل تجد من تخصص فى تشويه مراحل النصر والعزة والاستقلال والتضحيات.

ونحن البلد الوحيد الذى يتجرأ بعض مغرضيه على تشويه أبطاله ورموزه عبر وسائل إعلامه دون خجل أو خوف من غضب شعبى أو محاسبة قانوينة.

تاريخنا الحديث والمعاصر ينقسم لمراحل تبدأ من مرحلة حكم أسرة محمد على وما تضمنتها من نجاحات وإخفاقات وتدخلات أجنبية واحتلال وقهر لشعب مصر ونهب لثرواته، ومرحلة ثورة يوليو وما تضمنتها من نجاحات وبطولات وأيام عزة وانتصارات وإخفاقات أيضًا، ثم مراحل الانفتاح وما شهدتها من تراجعات وإخفاقات وانقلابات فى القيم والأخلاق وقوانين السوق، ويمكن اعتبار الثمانينيات والتسعينيات امتدادًا طبيعيًا لعصر الانفتاح، ثم مرحلة ثورة يناير وما أعقبها ونعرفه جميعًا؛ حتى وصلنا لمرحلة الجمهورية الجديدة.

وبما أن هناك من تخصص فى تبييض وجه عصر الاحتلال والاستعباد، وبما أننى واحد ممن عاشوا فى مهنة البحث والتدقيق والكتابة الصحفية طوال عصر اتسم كله بالفساد وضاع عمرنا وحياتنا العملية من البحث عن قصص الفساد التى كانت سمة هذا العصر، وبما أن الذاكرتين الصحفية والوطنية لا تنسيان عصر علت فيه عناوين تحمل أسماء «الديوك والحيتان والأخطبوط»، و«عصر حمل نوابه ألقاب نواب الكيف والقروض والتأشيرات»، عصر أنواع متعددة من «المافيا»، مافيا الأراضى والمخدرات والأدوية واللحوم الفاسدة والمبيدات المسرطنة وأمراض الكلى والفيروسات، عصر المسنودين والتقال وأصحاب النفوذ، عصر شهد أنواعًا جديدة من النساء كالمرأة الحديدية والبلاستيكية والفهلوية، وعصر سقوط العمارات ونهب الأموال وتوظيفها وتهريبها.

لذا أعتقد أنه حان وقت الكتابة عنها جميعًا وكتابة كيفية صناعة المليارديرات من أصحاب رخص مصانع الحديد والأسمنت والأدوية والمحمول، وغيرها من الشركات التى انتقلت ملكيتها من الدولة لأشخاص وأسر وعائلات بعينها دون أى منطق.

حقنا وحق الشعب أن نعرف لماذا انتهت زراعة القطن المصرى طويل التيلة.. ومن سرق بذوره لتزرع فى أمريكا بدلًا من مصر، ومن هرب بذور الطماطم لدولة العدو الإسرائيلى، ولماذا فضلنا استيراد القمح بدلًا من زراعته، ولماذا الكنتالوب والفراولة بديلان للقمح والقطن وليس أى محصول آخر أطول عمرًا وأكثر فائدة، ولماذا توشكى بدلًا من سيناء فى التنمية.

آلاف الملفات وآلاف الشخصيات كانت محور حياتنا طوال الثلاثين عامًا التى عايشناها وعملنا خلالها فى مهنة البحث عن الحقيقة وليس المتاعب، تاريخ من الفساد المتواصل كان فيضًا كالنهر للعمل الصحفى للصحف الحزبية والمستقلة والمعارضة، أبطاله هم بارونات وأباطرة، من نوعيات «علية العيوطى»، لـ«هدى عبدالمنعم»، ومن «يوسف عبدالرحمن» و«راندا الشامى»، لـ«يوسف والى» و«يوسف غالى»، ومن «الحباك للهباش والنصاب». 

كلها ملفات يجب أن يتم فتحها الآن ليُكتب جزء من تاريخنا المعاصر لم تقترب منه الدراما إلى الآن، يحاول البعض إنكاره أو تبييضه وتلميعه بما يمكن أن نسميه «أيام الفساد»، التى يحق لنا، بل وجب علينا فتحه بما تيسر لنا ولأبناء جيلنا ممن عاصروا معنا تلك الأيام، ولتكن بدايتها من المقال المقبل بإذن الله.