شريف الشوباشى: شيخ كبير له شعبية واسعة كان يتفاخر بأنه لم يقرأ أى كتاب غير القرآن طوال 40 سنة وهذا نوع من احتقار الثقافة
قال الكاتب الصحفى شريف الشوباشى إن المجتمع المصرى يعانى أزمة هُوية حقيقية فى الوقت الحالى، نتيجة اتساع الفجوة بين الأجيال الجديدة التى وُلدت فى عصر ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة، والأجيال الأقدم التى ارتبطت بالراديو والتليفزيون، باعتبارهما أحدث وسائل المعرفة. وأضاف، فى حواره مع الإعلامى الدكتور محمد الباز، من خلال برنامج «الشاهد» المذاع على فضائية «إكسترا نيوز»، أن المجتمعات الغربية لم تنهض من فراغ، ولكنها نهضت بانحيازها للثقافة، مشيرًا إلى أن هناك جماعات رجعية ترتدى ثوب الإسلام أجهضت محاولات النهضة المصرية، وأن أحد المشايخ الكبار كان يتفاخر بأنه لم يقرأ كتابًا منذ ٤٠ عامًا، إلا القرآن الكريم، وهذا نوع من احتقار الثقافة، لا ينتج عنه سوى الانحدار والتخلف.
■ إذا تحدثنا عن الشخصية المصرية فما أكثر ما يلفت انتباهك حيالها فى الوقت الراهن؟
- دائمًا كانت هناك فجوة بين الكبار والصغار، وهى من أيام الفراعنة، أى أنها ظاهرة بشرية طبيعية، لكن الفجوة فى مصر لم تكن بهذا الاتساع مثلما الآن، حيث ألاحظ أنها كبيرة جدًا، وعلى مستويات متعددة.
وأبسط مستوى هو المستوى اللغوى، فغالبية الطبقات المتوسطة أو العليا تتحدث اللغة الإنجليزية، حتى إن التعبير عن النفس فيه فجوة بين الشباب والكبار الذين يتحدثون بالعربية.
الصغار وُلدوا وفى فمهم ملعقة من ذهب، ووُلدوا على الإنترنت، وفى زماننا كانت التكنولوجيا المتقدمة جدًا هى راديو ضخم، لا يلمسه إلا الوالدان فقط.
وهناك فجوة معرفية بسبب الإنترنت وسهولة البحث، كما توجد فجوة استشرافية للعالم، فنحن إما أمام أفق ضيق ومحدود وقديم، أو انفتاح كامل على العالم.
■ هل الانفتاح على الغرب يفتح الباب أمام التغريب والابتعاد عن الأصالة والدين؟
- الطبقات العليا بالمجتمع المصرى كانت تتحدث الفرنسية فى شبابى، أما اليوم فالشباب يتحدث الإنجليزية، فهل هذا سيؤدى للابتعاد عن تاريخنا الفكرى والأصالة، أم نحقق مزجًا وتوليفة خصبة بحيث نكون منفتحين ونحافظ على الأصالة؟
رفاعة الطهطاوى، أبوالتنوير، هو أول من حقق هذه المعادلة الصعبة، حين سافر إلى فرنسا وانبهر بها، ولكنه أكد أن هناك قيمًا لا بد أن نحافظ عليها، وما عدا ذلك نأخذه عن الغرب لأنهم متقدمون عنا كثيرًا.
وتحقيق المعادلة بين الانفتاح على الغرب والحفاظ على أخلاقياتنا وتقاليدنا معادلة صعبة جدًا، لأن المشكلة أن من يحتك بحضارة وثقافة الغرب ينبهر بها ويقلدها، أو ينفر منها ويتهم أبناءها بأنهم كفار وأعداء للدين، وهدفهم الوحيد القضاء على الإسلام وإذلال المسلمين وشعوب منطقة الشرق الأوسط، وكلاهما مخطئ.
عشت أكثر من نصف حياتى العملية فى باريس، وقت عملى مديرًا لمكتب الأهرام، وكل المصريين بباريس كانوا يصبون عندى، وكنت أرصد ردود أفعالهم بشأن الانفتاح على الغرب، والحقيقة أنه إذا استسلمنا للانبهار والتقليد الأعمى للغرب، فإن المجتمع سيحدث له تفسخ، وإذا قلنا إنهم أعداء، فإنه لا قبل لنا بمعاداة هذا العالم المتقدم والمتطور.
الغرب فى حالة أفول حاليًا، ومن الممكن أن يستغرق نحو ١٠٠ سنة ليتنحى عن قيادة العالم لصالح قوى صاعدة أخرى هى الصين واليابان، لكن ارتباطنا بالغرب خلاف ارتباطنا بالصين واليابان.
بداية تطور الوعى كان مع رفاعة الطهطاوى وجيل الوطنية، مثل مصطفى كامل، وسعد زغول، والوعى بدأ برد الفعل والاحتكاك، وهؤلاء الأشخاص قرأوا هذه الإشكالية.
وكنت قرأت خطابًا لرفاعة الطهطاوى باللغة الفرنسية ولم أجد به خطأ لغويًا واحدًا، وهو رجل أزهرى، وكذلك الأمر مع مصطفى كامل، وجيل الطهطاوى ومن بعده، ومصطفى كامل هو من صنع النهضة المصرية الحقيقية، والتطور لا يأتى فى عام أو اثنين لكنه يأتى بالتراكم.
جاك بيرك، عالم الاجتماع الفرنسى، قال ذات مرة إن مشكلة الشرق الأوسط وجود الجماعات الرجعية التى ترتدى ثوب الإسلام، وأنها تسببت فى إجهاض محاولات وعمليات النهضة التى بدأت بفضل رفاعة الطهطاوى وحسن العطار ومحمد على.
■ نشأت فى بيت يُقدّر الثقافة وكان والدك شاعرًا ويتردد عليه كبار الأدباء.. فكيف أثرت فيك هذه التنشئة؟
- كان يتردد على بيتنا عبدالرحمن الشرقاوى، ومحمد مندور، ويوسف السباعى، وغيرهم، كانوا يأتون لبيتنا بانتظام، وكان والدى شاعرًا وحافظًا للشعر، وقال لى لويس عوض عن والدى إنه «لا يوجد من حفظ شعر عربى مثله».
ومن الطرائف أن والدى لم يكن يفوت أى فرصة لإلقاء الشعر، وأذكر أنه كان يقول الشعر فى أى حدث، مثل إذا سقطت الشوكة من يدى، أو من يد أخى على، أثناء تناول الطعام.
■ ما السبب الذى جعلنا نصل لأن نحتقر الثقافة بدلًا من احترامها؟
- الجماعات الرجعية هى السبب الذى جعلنا نصل إلى هذه الدرجة من التدنى واحتقار الثقافة، وأذكر أن أحد كبار المشايخ، صاحب تأثير جبار على البسطاء، تفاخر ذات مرة بأنه لم يقرأ إلا القرآن الكريم منذ ٤٠ عامًا، رغم أن القرآن يحث الناس على التدبر، ولكن كلام الشيخ كان من باب احتقار الثقافة، ومحبو هذا الشيخ تأثروا به.
الثقافة اختلفت فى العالم كله، وليس مصر فقط، ففى الخمسينيات والستينيات كبار الكتاب بفرنسا كانوا يسمونهم المؤثرين على الرأى العام، أما اليوم فلا يوجد مثقفون بنفس قدر المثقفين قديمًا، وكذلك الأمر فى إنجلترا.
ذات يوم اجتمعت مع الأديب نجيب محفوظ، وخلال الجلسة سألنى عن آخر أخبار فرنسا، فقلت له هل تعلم أن أهم كتاب بفرنسا وزع ٥.٥ مليون نسخة، فقال لى إنه قبل نوبل كان لا يوزع أكثر من ٣ آلاف نسخة وبعد حصوله على نوبل أصبح يوزع ٣٠ ألف نسخة، فإذا كان هناك هبوط فى مستوى الأداء الفكرى العالمى، فإنه فى مصر كان أكثر.
■ كيف بدأت رحلتك فى العمل الصحفى.. وما المؤسسات الصحفية التى التحقت بها؟
- كان حلمى فى الصغر أن أكون مهندسًا، لأشارك فى مشروع السد العالى، لكنى كنت ضعيفًا فى الرياضيات والهندسة بشكل عام، ولم أحصل على مجموع كبير فى الثانوية العامة، وكان والدى يمنحنى حرية الاختيار بشأن مستقبلى، ولكن كان يخبرنى دائمًا بأننا عائلة لها ميول أدبية وفكرية.
والتحقت بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية، والتعمق فى تعلم اللغة الفرنسية فتح أمامى جميع المجالات، والتحقت بوكالة أنباء الشرق الأوسط، وكان دورى حينها هو كتابة الأخبار باللغة الفرنسية، وأخبرنى شقيقى فى أحد الأيام بأن الكاتب الصحفى إبراهيم عامر، بمجلة المصور، طلب منه شخصًا يجيد اللغة الفرنسية، من أجل العمل بمجلة تصدر بالفرنسية.
وكانت مجلة «Images» هى بداية عملى فى الصحافة المكتوبة، وأتذكر جيدًا أول شخص التقيت به ليعلمنى أساسيات العمل فى المجلة، وهو الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، ثم انتقلت بعد ذلك إلى منظمة اليونسكو بباريس لمدة ٥ سنوات، ثم قدمت استقالتى من كل هذه الأماكن من أجل العمل بجريدة الأهرام.
■ من وجهة نظرك وخبرتك المهنية.. مَن عمالقة الصحافة فى مصر؟
- فكرى أباظة وأحمد بهاء الدين وصالح جودت وأمينة السعيد كانوا عمالقة الصحافة فى مصر، والكاتب الكبير فكرى أباظة كان يتواصل معى بشكل شبه يومى للسؤال عن تفاصيل الموضوعات التى يعمل عليها دون أى إحراج، رغم أننى كنت فى بداياتى بالعمل الصحفى.
وكانت علاقتى أيضًا طيبة للغاية مع الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، فقد ترك رئاسة جريدة الأهرام فى فبراير ١٩٧٤، وأنا توليت مكتب الأهرام فى باريس عام ١٩٨٥، وحين التقينا هناك كان انطباعى الأول عنه هو اعتزازه الكبير وثقته بنفسه بشكل مطلق، وكان أيضًا متواضعًا للغاية.
اكتشفت ذلك حين أرسل لى الأستاذ أحد مقالاته للاطلاع عليه، وإبداء رأيى المهنى به، وكنت محرجًا للغاية عن كيفية إبداء رأيى فى الأستاذ هيكل، فهؤلاء الكتاب والصحفيون الكبار كان لديهم تواضع علمى ومعرفى ومهنى.
■ ما كواليس تغطيتك الصحفية المعمقة لقضية روجيه جارودى فى باريس؟
- قدمت تغطية صحفية معمقة خلال إقامتى فى باريس عن محاكمة المفكر الفرنسى روجيه جارودى بتهمة معاداة السامية، وذلك بسبب كتابه «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل»، الأمر الذى أزعج الكثير حينها، وأبلغنى بذلك أحد المسئولين بوزارة الخارجية فى فرنسا. أتذكر جيدًا إيريك رولو، مستشار رئيس الجمهورية الفرنسية حينها، الذى كان متخصصًا فى قضايا الشرق الأوسط، حين دافع عنى فى ذلك الهجوم، وقال إننى كنت حريصًا للغاية فى كتاباتى وإشارتى إلى أن اليهود اضطهدوا على يد هتلر، ولكن لا ينبغى أن يترتب على ذلك أن يضطهدوا الفلسطينيين. فى تلك الفترة، كان هناك شخص فرنسى أعد دكتوراه لينفى فيها وجود أفران الغاز فى عهد هتلر، ونشرت عنه موضوعًا صحفيًا، وحينها تعرضت لهجوم عنيف من جماعات المصالح اليهودية، واتهموننى بأننى أُعادى اليهود، فطلبت من المسئولين هناك أن يبحثوا عن شخص آخر لإعداد دكتوراه جديدة لتفنيد المعلومات التى وردت فى هذه القضية.
■ كيف ترى التحولات التى طرأت على أجيال الصحفيين الجدد فى مصر؟
- الصحفى أو الكاتب الذى يمسك قلمه لديه مسئولية كبيرة للغاية، وللأسف لم يعد هناك أى إدراك لهذه المسئولية، وكنت أشعر دائمًا فى الماضى بأن الصحفيين الكبار الذين تتلمذنا على أيديهم كانوا يحملون همومًا كبيرة، وكانوا حريصين على مصالح الوطن.
لم أرَ شخصًا فى حياتى لديه ثقافة سياسية عامة بقدر الأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ أحمد بهاء الدين، فكان مجرد الحديث معهما متعة كبيرة، ولا يخطئان فى أى معلومة يقدمانها للجمهور والقراء، ولكن اليوم إذ قرأنا أى عدد ورقى من جريدة رسمية سنرى فيها أكثر من ٢٠ خطأ مهنيًا فى المعلومات المقدمة.
هناك مشكلة واضحة فى ثقافة الصحفيين بالمعنى المعرفى فى وقتنا الحالى؛ فالثقافة هى «الموتور» الذى يحرك المجتمع، ولا نتصور أن أوروبا انطلقت من الثورة الصناعية واكتشافات نيوتن، ولكن الأساس كان الثقافة والمعرفة، وأرى حاليًا صحفيين جددًا لا يستطيعون كتابة أى معلومة.
■ ما كواليس كتابتك مسرحية «لن تسقط القدس».. وكيف تعامل معها النقاد؟
- حين كتبت مسرحية «لن تسقط القدس»، التى جسدها على المسرح الفنان الراحل نور الشريف، والفنانة عفاف راضى، فوجئت بما كتبه النقاد الفنيون حينها عن العمل.
ولاحظت أن النقاد الذين أعرفهم بشكل شخصى كتبوا مديحًا كبيرًا للغاية، والنقاد الذين لا أعرفهم هاجمونى بشدة.
شعرت بالحزن حين اكتشفت أن النقاد يكتبون على أساس معرفتهم الشخصية بالمؤلف، إضافة إلى أن النقد كان سطحيًا بشكل غير طبيعى، ولا يوجد به أى تأمل عميق، فأنا كتبت مسرحية أدعى أن بها فكرًا عميقًا، ولم أرَ النقد على مستوى الفكرة نفسها.
كنت سأتقبل أى نقد واضح ومعمق حول مسرحية «لن تسقط القدس»، بل سأتعلم منه كثيرًا، وأتذكر حين كتب أحد النقاد: «هذا نص ضعيف، ولولا نور الشريف لما نجحت المسرحية»، فذلك تعليق مريب للغاية، ولا يخرج إلا من ناقد لا يقدر الكلمة أو النص، بل يشغل باله بالنجم الذى يقدم العمل الفنى.