العميد.. رسائل ومقالات لم تنشر «1»
طه حسين: فلسطين مسرح للصراع بين باطل الصهيونية وحق العرب
- أرض فلسطين اصطبغت بدماء المصريين كما اصطبغت بدماء الفلسطينيي
- لا توجد حضارة لإسرائيل حتى نواجهها إنما يوجد استخدام واستغلال من جماعة اليهود الوافدين من الغرب المستغلين لحضارته
- فى ذمة الله شهداء فلسطين وليس ألم مهما يعظم بكثير فى سبيل الوطن والحرية والعزة والكرامة والاستقلال
تبدو عظمة د. طه حسين، غير عظمته الأدبية والفكرية، فى عظمته النفسية، فعلى عكس بعض المثقفين الذين تخلصوا من بعض أوراقهم التى رأوا أنها قد تسىء إلى سيرتهم، فإن طه حسين احتفظ بكل ما كتبه وما كتب إليه، وكان حرص أسرته كذلك ألا يعبثوا فى تراثه بالحجب أو المنع، كما فعل بعض الورثة الذين نصّبوا من أنفسهم أوصياء على سيرة عاهلهم الأديب أو الفنان، ومن ثم فإن طه حسين وإن لم يكمل «الأيام» التى أودعها سيرته الذاتية، فإن أوراقه التى تركها- لحسن الحظ- تسد هذا النقص إلى حد كبير، فضلًا عما تمثله من كشف إنسانى لجوانب من حياته بكل ما فيها من أمل وألم، ورغم مرور نصف قرن على رحيله؛ فإنه ترك لنا من بين أوراقه ما يجدد سيرته، بل ما يدهشنا فى مسيرته كرمز يكاد الوحيد الذى نتذكره من رواد عصر التنوير، إذ لا تزال بعض أفكاره مرجعًا لنا، فضلًا عن قابليتها للجدل، ما يدل على حيوية الرجل رغم رحيله، وخلوده فى دنيانا رغم طى صفحة حياته الفانية، ولكن صفحات فكره لا تزال مفتوحة ومطروحة للفحص والدرس والتأمل، ما يعنى أن عميد الأدب العربى لا يزال له حضور متجدد فى حياتنا.
فلسطين فى أوراق طه حسين
تكشف أوراق طه حسين عن أنه كان يقضى مصيفه فى فلسطين، وتحديدًا فى القدس، وليس فى أوروبا فقط، أو فى لبنان كما هو معروف، حيث كان الطريق ممتدًا بين مصر وفلسطين عبر قطار الشرق السريع، وفى رسالته عام ١٩٤٢ إلى نجيب الهلالى، وزير المعارف العمومية، الذى كان مستشاره الفنى، نعرف أن العلاقة بينهما لم تكن علاقة رئيس بمرءوس، بل كانت علاقة إنسانية تظهر فى مخاطبته له بلفظة «أخى»، ولم يكن يتردد فى الاقتراض منه، الأهم فى تلك الصلة الحميمة أن نجيب الهلالى كان هو الذى أنهى قانونيًا العلاقة بين طه حسين وآل هرارى، الذين كانوا يمولون مجلة «الكاتب المصرى» التى كان يرأسها، بعد أن نشر خصومه أن أسرة هرارى اليهودية التى كانت تعيش فى مصر كانت لها علاقة بالصهيونية، مع أن مقالات طه حسين كانت تثبت أنه كان من أكثر الكتّاب المصريين دفاعًا عن القضية الفلسطينية، كما أثبت بذلك حلمى النمنم فى كتابه «طه حسين والصهيونية»، أو كما كتب طه حسين: «لا توجد حضارة لإسرائيل حتى نواجهها، وبالتالى لا توجد لها حضارة تصارعنا، وإنما يوجد استخدام واستغلال من جماعة اليهود الوافدين من الغرب المستغلين لحضارة هذا الغرب».
ويذكرنا طه حسين أن «أرض فلسطين اصطبغت بدماء المصريين، كما اصطبغت فلسطين بدماء الفلسطينيين»، ولهذا يعتبر «فلسطين مسرحًا لهذا الصراع الهائل بين باطل الصهيونية وحق العرب، وبين تسلط الاستعمار وحق العرب»، ولذلك اكتشف طه حسين مبكرًا أن «الأوروبيين يحتكمون فيمن بينهم إلى الديمقراطية وإلى العدل والقانون، لكنهم مع غيرهم- أى معنا نحن العرب- يفعلون العكس تمامًا»، وفى ختام أحد مقالاته يكتب مثمنًا عند الله الدم الفلسطينى قائلًا: «فى ذمة الله شهداء فلسطين، وفى ذمة الله صرعى فلسطين، وفى ذمة الله آلام العرب فى فلسطين، فليس شىء مهما يكن، وليس ألم مهما يعظم بكثير فى سبيل الوطن، وفى سبيل الحرية والعزة والكرامة والاستقلال».
وبعد، فهذا هو نص رسالة طه حسين التى كتبها من مصيفه بفلسطين حين كانت لا تزال أرض سلام قبل أن تتحول إلى دار حرب، والغريب فى هذه الرسالة أن طه حسين يتابع أعماله فى الوزارة؛ رغم حصوله على إجازة من أعبائها، كتب يقول:
فلسطين
أكتوبر ٤٢
أخى نجيب باشا
ليس هذا كتابًا رسميًا، ومع ذلك فلن أتحدث فيه إلا عن شئون العمل والوزارة، فإن اشتغالك بجلسات مجلس الوزراء وبالمقابلات التى كنا نظن أنها ستخف بعد انتهاء الدورة البرلمانية، فإذا هى تزداد كثرة وتعقيدًا وبأعمال الوزارة التى تختطف ما تستطيع فى النهار، وتفرغ لها حين تستطيع فى الليل.
كل ذلك لم يمكننى من أن أتحدث إليك هادئًا فى أشياء لم يكن بد من التحدث إليك فيها. فلتسعد الكتب إذا لم يسعد اللقاء، ولست أرى بأسًا من أن تقرأ هذا الكتاب وعلى وجهك ابتسامة فيها كثير من السخرية، ولكنّ فيها كثيرًا من المودة، وكذلك أقدر ابتساماتك لكل ما يصدر عنى، وإن لم أرها. فاقرأ هذا الكتاب فى الوزارة إن شئت، أو ضعه فى الحقيبة لتقرأه فى البيت إن أحببت، فإنى لا أريد إلا أن تقرأه وكفى..
١- لم أستطع أن أقترح من ينوب عنى أثناء غيبتى، لسبب بسيط وهو أنى مستشارك، وما ينبغى أن أفرض عليك أو أن أقترح عليك مستشارًا، فستستغنى عن المستشار إذن أثناء غيابى، أو ستستبدل به من شئت، ولكنّ للمستشار أعمالًا إدارية لا بد من أن يصرفها مصرف، وكثير منها بسيط لا يبلغ أن يرفع إلى الوزير أو لا ينبغى أن يرفع إليه دون بحث، فيخيل إلىّ أن شفيقًا يمكن أن يقوم مقامى فى تصريف هذه الأمور إن شئت، وإلا فالخير ألا تنيب عنى غيره، ففى ذلك إيذاء له لسنا فى حاجة إليه.
٢- طلبت وزارة الشئون الاجتماعية الإذن لفرقتها التمثيلية بالعمل فى الأوبرا فى موعد حددته، وكنت أريد أن أرفض الأوبرا، ولكن صلاح الدين بك ألح علىّ، والظاهر أنه كلمك، وأنك وعدته دون أن تأخذ رأى مستشارك، ولا عزاء فى هذا، فلفظ المستشار يجعل رأيه ثانويًا.. لكن الأوبرا قد ارتبطت مع بعض الفرق الإنجليزية، ولا يحسن نقض هذا الارتباط، ولن تكون الأوبرا حرة قبل ١٥ نوفمبر، وقد اتفقت مع صلاح الدين بك على أن نجتهد فى إخلائها للفرقة؛ ابتداء من يوم ١٥ نوفمبر، وسأترك التعليمات بذلك لسليمان نجيب، فأرجو ألا تغير هذا الاتفاق.
٣- وبمناسبة الفرقة التمثيلية علمت أن معاليكم وافقتم على أن يكون الأستاذ محمد حسن مراقب الفنون الجميلة مديرًا للفرقة، ولم أعلم بشىء من هذا إلا مصادفة، ولكن رأيى فى هذه المسائل ليس رأى المستشار فحسب، فمراقبة الفنون الجميلة تتعبنى، لو استشرتنى لأشرت بغير ما تم الاتفاق عليه، ولكننى أقدر أنهم طلبوا إليك ذلك حين كنت فى رئاسة مجلس الوزراء يومًا من الأيام، فأجبت غير مكترث بالفرقة ولا مديرها.
والأستاذ زكى طليمات مدير فنى للفرقة، فعلى وزارة المعارف إذن وزر هذه الفرقة ليس غير. أليس يمكن أن تنقلهما جميعًا إلى وزارة الشئون الاجتماعية لترقى بهما وبالفرقة التمثيلية إلى عنان السماء، وتدبر وزارة المعارف أمرها على خير مما هو مدبر الآن.
٤- ومسألة أخرى ليست من شئون وزارة المعارف، ولكنها من شئون الرئيس الأعلى للجامعة، وقد تعمدت أن أتحدث إليك فيها تليفونيًا، صباح اليوم، وعبدالوهاب عزام إلى جانبى. فالواقع أن فى الكلية دعايات سخيفة، وأن شئون العمادة تأخذ دورًا غير مريح، ولست أدرى إلى أى حال تنتهى شئون الكلية. ومن المحقق أن عنايتنا بالإسكندرية- يقصد جامعتها- لا ينبغى أن تعرّض جامعة القاهرة لخطر ما، ولست أشير بشىء، ولكننى أتمنى لو تؤخر الانتخاب إلى ما بعد العيد، ذلك أجدر أن تتيح لنا فرصة للتفكير والاحتياط للعام الدراسى، فلا ينبغى أن يكون العميد فى كلية الآداب ضعيفًا متهالكًا، ولا سخيفًا مضحكًا، وقد كانت هذه الكلية دائمًا عنوان الجامعة، ويُرجى أن تظل كذلك.
وأعود بعد ذلك إلى وزارة المعارف، فأذكرك بما تحدثت إليك فيه من أمر مراقبة تعليم البنات، وما أشك فى أنك ستجد له دواء رفيقًا رشيقًا ناجعًا.. وقد تحدث إلىّ متحدثون اليوم بالتليفون زعموا أنهم من أساتذة اللغة العربية بوزارة المعارف وأبوا ذكر أسمائهم، واتهموا مفتشًا يعمل مع الأستاذ جاد المولى بك، اسمه حمزة، تهمًا خطيرة. ولست أحب الأخذ بالشبهات ولا الاستماع للذين يَجبنون فلا يذكرون أسماءهم، ولكننى أحب دائمًا الاحتياط، وأول ما يجب من الاحتياط هو أن أظهرك على ما أعلم، وقد فعلت.
أما بعد، فأعلم أنك قد أذنت لى فى السفر راضيًا كارهًا معًا، فأما رضاك فلأنك تحب لى ولأهلى ما ينبغى لنا من الراحة، وأما كرهك فلأن العمل كان يقتضى بقائى فى هذه الأيام.. وأقسم لو استطعت لبقيت، وما أسافر رغبة فى الراحة لنفسى، وراحتى آخر شىء أفكر فيه، ولكنّ فى الحياة أثقالًا وواجبات يجب أن تُحمل وأن تؤدى، ولسنا سعداء دائمًا باحتمال الأثقال ولا بتأدية الواجبات، وأنا شاكر لك على كل حال إذنك لى بالسفر، معتذرًا إليك من هذا السفر نفسه، مؤملًا ألا تجد فى العمل مشقة أكثر مما تجد، وأثق بأن من الغياب ما قد لا يخلو من خير، ومن يدرى لعل من الخير أن يستريح الوزير من مستشاره أيامًا، فأرح نفسك من هذا الثقل على الأقل، واحتمل ثقل السيجار والقهوة والموظفين والمقابلات. وتقبل أصدق تحيتى وأخلص مودتى.
وفى رسالة أخرى متعلقة بسابقتها، يطلب طه حسين ممن أسماه شرارة باشا دون تحديد صفته، أن ييسر له الحصول على فندق مناسب، بعد أن يسر له سبل السفر إلى القدس، وقد يكون من المسئولين فى وزارة الخارجية، لأنه يتحدث عن التواصل مع قنصلنا فى القدس، وهذا هو نص الرسالة:
صديقى صاحب السعادة شرارة باشا
دعنى أولًا أشكر لك حسن عنايتك بى وما تكلفت من جهد فى تيسير سفرنا إلى القدس، وقد زعم لى زاعم أن مدير شركة الفنادق هنا أوصى فى فندق الملك داود بإعداد أماكن لنا بأجور معتدلة، وقد تفضلت فوعدتنى بأن تتحدث بالتليفون إلى قنصلنا فى القدس، فأشكرك أجمل الشكر إذا طلبت إليه أثناء الحديث أن يتصل بـ«فندق آخر غير واضح الاسم» وأن يختار لنا خير هذين الفندقين، والذى يرغبنا فيه أن له حديقة، وقد قيل إن الفندق الآخر لا حديقة له. وعلى كل حال فإذا ما وصلنا إن شاء الله إلى القدس فسنمر على القنصلية، وأرجو أن يترك لنا القنصل هناك خبرًا ينبئنا بما اختار لنا.
وأنا أجدد لك شكرى مضاعفًا، وأرجو أن تتقبل أصدق تحياتى.
نسافر صباح الغد ونرجو أن نصل مساء.
أحاديث الحرب
عاش طه حسين وجيله أجواء حروب كبرى فى العالم، فضلًا عن حروب إقليمية أخرى، وهو فى هذا النص الذى بين أيدينا يعبر عن مشاعره تجاه الحرب منذ كان طفلًا، فيقول فى هذه السطور التى جعل لها عنوان «أحاديث الحرب»:
«كانت تبلغ آذاننا فى آخر الطفولة وأول الصبى حين كنا نختلف إلى الكتاب، وحين كان سيدنا يسأل العريف عن أنباء الحرب بين الترك واليونان فى آخر القرن الماضى (يقصد القرن الـ١٩) وكانت هذه الأحاديث تحمل إلى نفوسنا صورًا ضئيلة مختلطة مشوهة تثير شيئًا من الخوف الغامض والإعجاب المبهم، فقد كنا نسمع أعدادًا ضخمة لا نحققها، ولكن قلوبنا تمتلئ لها روعًا وإعجابًا، وهى أعداد القتلى والجرحى من أولئك وهؤلاء، وكنا نسمع أسماء مدن وأماكن تصل إلى آذاننا بعد أن تصيبها ألوان من المسخ والتشويه، فتثير فى نفوسنا عاطفة الطموح فى غير ما كنا فيه، والنزوح إلى دار أبعد من الدار التى كنا نقيم فيها.
وكنا إذا خلونا إلى أنفسنا بعد الاستماع إلى هذه الأحاديث المشوهة تمثلنا صورًا مختلطة من الروع والإعجاب، ووجدنا فى تمثل هذه الصور شيئًا من الرضا الذى كان يلائم خيال الصبى وحاجته إلى الطموح من ناحية، وإلى العلم والمعرفة من ناحية أخرى، وقلما كنا نفرق بين أحاديث الحرب هذه وأحاديث أخرى كانت تقص علينا فى أعقاب النهار وأوائل الليل، تملؤها الأخبار الهائلة التى كانت تلذنا بما تثير فينا من الإعجاب والروع، والتى كانت تتحدث إلينا ببلاء الأبطال حين يلقون الأغوال فى الأساطير وقصص العجائز.
ثم تتقدم السن بنا شيئًا، فإذا نحن نسمع أحاديث الحرب بين الإنجليز والبوير، فنفهمها خيرًا مما كنا نفهم الأحاديث الأولى، ولكنا لا نحقق من أمرها شيئًا واضحًا معقولًا، وإنما هو الروع دائمًا والإعجاب أحيانًا والخيال الذى يخلق لنفسه ما يشاء، أو ما يستطيع من الصور دون أن تتصل أهواؤنا بهذا الفريق أو ذاك من المحاربين، لأننا لم نكن نعرف من أمر هذا الفريق أو ذاك شيئًا.
ولكننا نسمع بعد حين أخبار حرب أخرى تثور فى أقصى الأرض بين الروسيين واليابانيين، ونفهم هذه الأخبار خيرًا مما كنا نفهم غيرها، ونحس ما تحمل إلينا من الأهوال فى قوة ودقة لم نكن نعرفهما من قبل. ونسمع من حولنا أوساط الناس يختصمون فى أمر المحاربين، يختصمون بعقولهم وعواطفهم، ففريق يميل إلى الروسيين ويتمنى لهم الفوز، وهم المسيحيون من إخواننا الأقباط، وفريق يميل إلى اليابانيين ويقدر لهم النصر، وهم المسلمون.
ونظل نحن فى آخر الصبا وأول الشباب على هذه الحيرة، التى تنشأ عما يلائم هذه السن من الغفلة والأثرة والإعراض إلا ما يمسنا من قريب.. وتمر بنا هذه الحرب وأخبارها وأهوالها ونتائجها دون أن تترك فى قلوبنا آثارًا ثابتة، وإنما هى أحداث ثارت فأحيت فى نفوسنا بعض العواطف ثم انقضت، فانقضت معها العواطف التى أثارتها.
ولكن الأيام تمضى، وإذا الحرب تشب بين الترك والإيطاليين فى شمال إفريقيا فى هذه الأرض التى تجاور بلادنا، فهى حرب قريبة منا، قريبة فى المكان، وقريبة فى الشعور أيضًا، فقد كنا شركاء الترك فى الدين، وكنا شركاءهم فى السياسة أيضًا، هنالك تشترك عواطفنا فى هذه الحرب، وتشترك أيدينا، وتشترك ثروتنا أيضًا، فمنا المتطوعون الذين ينفرون خفافًا وثقالًا إلى الحدود، وهنا الباذلون الذين يمنحون ما يستطيعون من المال معونة».
انتهى تصوير طه حسين لمشاعره ومشاعر المصريين تجاه الحروب التى نشبت فى عصره، وهنا يجب التنويه إلى أن الحرب الأخيرة التى تحدث عنها بين الأتراك والإيطاليين كانت فى ليبيا، ومن هنا وصفها بأنها كانت قريبة فى المكان والشعور، ومن ثم فإن مساعدة المصريين لم تكن لتركيا فقد انهزمت، وإنما كانت لأهل ليبيا، واستمرت حتى حصولها على استقلالها.
نص آخر ولكنه قصير يصور فيه طه حسين رخص التضحية بالنفس فى سبيل الوطن أثناء الصراع بين الشعوب الديمقراطية، والأخرى الديكتاتورية، ولعله يقصد الصراع بين دول الحلفاء ودول المحور فى الحرب العالمية الثانية، كما يدل عليه حديثه فى السطور التالية، التى يقول فيها:
«لم يشغل الإنسان عن نفسه قط كما شغل عنها فى هذه الأيام، ولم يشغل الإنسان بنفسه قط كما شغل بها فى هذه الأيام، ولم تأتلف حياة الإنسان من الأثرة والإيثار ومن الإسراف فى حب النفس والإقدام على التضحية بالنفس ائتلافًا منظمًا دقيقًا منسجمًا كما تأتلف فى هذه الأيام.. هذه الملايين من الجند تسرع إلى الموت قبل أن يسرع الموت إليها، تجود بالنفس إن ضن البخيل بها، كما يقول مسلم، تريد بذلك الذود عن الوطن، وعما يدل عليه لفظ الوطن من المعانى القريبة والبعيدة من المعانى الساذجة والمعقدة، هذه الملايين قد آثرت أوطانها على أنفسها، وقد اتخذت من هذا الإيثار قانونًا لحياتها أثناء الحرب فرضتها على نفسها فى البلاد الديمقراطية، وفرضها عليها الطغاة فى البلاد الديكتاتورية، فهى لا تعيش لنفسها ولا تفكر فى نفسها، وإنما تعيش لأوطانها أو لسيادتها، وتفكر فى أوطانها أو سيادتها».