سوزان طه حسين
عندما كنت اجمع المادة اللازمة لكتابي " طه الذي رأي " وجدت أكثر من عشرين كتابا تتحدث عن العميد، لم أكن أريد تكرارها، لذا بعد قراءتي لتلك الكتب شعرت بنوبة يأس، واعتقدت ان تلك الكتب قد غطت حياة العميد تغطية كاملة، لا تترك لأحد بعدها ما يقوله.
ولكنني قررت أن اكتب عن العميد شيء مختلف، والقاء الضوء على كثير من المواقف التي تميزه عن غيره من المبصرين، لقد تغلب على محنته، وتعايش معها. وقد لفت نظري، وأنا اكتب عن الظروف التي أحاطت به. علاقته بزوجته الفرنسية سوزان، وقرأت كتابها الذي كتبته عنه بعنوان "معك".
سوزان ميسو. دونت كتابها بعد رحيل طه حسين، كانت تخشى ان ترحل عن الدنيا قبل ان ترى كتابها منشورا بالعربية التي لم تتقنها، رغم معايشتها عميد الأدب العربي نصف قرن كامل. ترجمه من الفرنسية الكاتب والمترجم السوري الدكتور بدر الدين عروكي. في 2008.
توفيت بالقاهرة يوم 26 يوليو 1989عن عمر جاوز الأربعة والتسعين عاما. قضت منها خمسة وسبعين سنة في مصر. ودفنت في المقبرة اللاتينية بالقاهرة.
شرعت في كتابته بعد عامين من وفاه طه حسين. وبعدَ مضيِّ ثمانية وخمسين عامًا على الزواج، كانت في الثمانين من عمرها، لذا فإن كتابها يعتمد على الذاكرة. لا على أرشيف ووثائق
علاقة فريدة من نوعها ربطت العميد بزوجته. وهي ليست علاقة زواج عادية، ولكنها علاقة كانت تحمل من النقائض أكثر مما تحمل من الاتفاق، فهي علاقة بين بين مسلم ومسيحية، مصري وفرنسية، عربي الثقافة والانتماء الحضاري وأوروبية في ثقافتها وانتمائها.
رغم كل تلك الاختلافات عاشت تلك العلاقة أو الرابطة أكثر من خمسين سنة. نسجها من الحب العميق، وبادلته حب واحترام ُّ لا يقل عنه، وكان أكثر ما يثير الإعجاب فيها أن ً هذا الاحترام طال في حياتهما المشتركة، وشمل عمقً حريَّةَ العقيدة؛ فقد كانت مسيحية وبقيت كذلك على دينها في ً رفقة زوج مسلم لا يثنيها عن دينها ولا يحاول. وكان ذلك أمرّا نادرا، بل فريدا في وقته وفي مجتمعه.
الكتاب فريد في شكله ومضمونه، ولا يحسب على الرواية رغم توافر مقوماتها، ولا هو كتاب تاريخ على ما يتضمنه من حوادث وشخصيات معروفة، إنه مجموعة فنون في كل فنون الكتابة الجميلة.
تلك العلاقة التي لفتت بشده أنظار المستعرب جان بيرك، أستاذ التاريخ الاجتماعي والحضاري للعالم العربي في الكوليج دو فرانس. فاقترح على سوزان بعد وفاء طه حسين. في إحدى زياراتها إلى باريس ولقائها به، أن تكتب تجربتها. وان تكشف عنها، حيث لم يسبق لم يسبق أن سلِّطت الأضواء على تلك العلاقة النادرة من قبل.
تظهر الرسائل المتبادلة بين طه حسين وزوجته سوزان في أثناء رحلاته دون رفقتها، أو رحلاتها إلى فرنسا مع أبنائهم دونه، جانبًا مهمًّا في شخصية العميد، فطه حسين الذي دائمًا كان يوصف بالشيخ طه، كان يمتلك مشاعر متّقدة، وعواطف ملتهبة، وإخلاصًا نادرًا في الحب، فالرسائل المتبادلة تكشف صورة للشيخ العاشق، فجميع الرسائل تقطر غزلًا ورقة، رغم أن كثيرًا من هذه الرّسائل كتبها وهو في مرحلة عمرية كبيرة، وتقديرًا لدورها ومكانتها عنده، أهدى لها كتابه “قصص تمثيلية” بالعبارة الآتية:
"إلى زوجي التي جعل الله لي منها نورًا بعد ظلمة، وأنسًا بعد وحشة، ونعمة بعد بؤس، أرفع هذا الكتاب".
وكتب – مرةً أخرى – يقول:
- كان لطفي بك – يقصد لطفي السيد – يقول إن طه لا يستطيع أن يعمل بعيدًا عن زوجته ذلك لأن قلبه لا يكون معه، أي نعم ولا كذلك عقله.
أمّا هي فكانت رسائلها هكذا:
"حملتُ إلى منزل ابنتي بالمعادي رسائلكَ التي أريد أن أقرأها بهدوء كلما استطعت إلى ذلك سبيلا. وقد انزلقت إحداها هذا الصباح من الرزمة ووقعت أرًضا وكانت تحمل تاريخ ديسمبر 1925 وقرأت: ابقي، لا تذهبي، سواء خرجت أو لم أخرج، أحملكِ فيّ، أحبكِ. ابقي، ابقي، أحبكِ. لن أقول لكِ وداعًا، فأنا أملككِ، وسأملكك دومًا، ابقي، ابقي يا حبّ".
وكانت سوزان قد أشارت في كتابها «معك» الذي ترجمه للعربية د. بدر الدين عرودكي، إلى حب طه حسين وعشقه لطائر الكروان، وذكرت أنه كان يقول:
-ها هو ذا طيري العزيز الذي يملأ الفضاء بغنائه الفرح منذ بدأت الكتابة لك. إن ذلك يغمرني بالفرح.
وفي موضع آخر بالكتاب تقول:
-فقد كان طه الذي أحبُّ دومًا عصفور بلده هذا يستقبل تحيته كل مساء بفرح، ويظنّ أن صرخةً واحدة أو خفقة جناح واحدة تجتاز السماء كلما مرّتْ طيور الكروان من فوقنا بسرعة. لم أكن الوحيدة التي سمعت بطريقة مختلفة هذا الكروان، الذي أوحى إلى طه بواحد من أجمل كتبه، بطريقة مختلفة.
كما كتبت سوزان عن المآسي الكبرى التي تعرض لها عقب التحقيق معه في قضية كاتب الشعر الجاهلي، وعقب فصله من الجامعة فقالت إن ما حدث له أرهقه. ولم يكن الدكتور طه حسين قادرا على فهم هذه الأحكام البليدة، وهذا التحيز الأخرق، وهذا الحقد الحاسد، وهذا الرياء، وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض أناس طيبين ضد إنسان شريف، وفي اقتياده إلى النيابة، بعد أن صادروا كتابه والحملات القاسية في الصحافة، والشتائم، والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة على مدخل بيتنا، أمام باب الحديقة خلال عدة أشهر. كل هذه الأحداث كانت تذهله وتستثير ضميره العلمي وتؤلمه كثيرا. وخلال هذه المحنة القاسية، ظل بعض الأصدقاء أوفياء لطه حسين ولم يبخلوا عليه بدعمهم المعنوي ولا بتضامنهم الصريح والواضح، بين هؤلاء لطفي السيد الذي تتحدث عنه السيدة سوزان بكل احترام ومحبة ".