تداعيات مقتل مؤسس مجموعة فاجنر الروسية على المنطقة وإفريقيا
أثار إعلان مقتل زعيم فاجنر الروسية يفجيني بريجوجين مع مجموعة من قيادات الشركة في تحطم طائرة خاصة في الأجواء الروسية، موجة من التساؤلات عن مصير المقاتلين، وتداعيات مقتله على المنطقة وإفريقيا.
وفي هذا السياق، قال أشرف الصباغ الباحث في الشأن الروسي، إن اختفاء مؤسس شركة فاجنر العسكرية الروسية يفجيني بريجوجين، سواء بقتله أو بوفاته في حادث تحطم طائرة، هو أحد تداعيات وتجليات مشهدين أساسيين، الأول، مشهد الحرب الأوكرانية، والصراع الداخلي بين مراكز القوى العسكرية والأمنية في روسيا، وبالتالي، من مصلحة جميع الأطراف أن يختفي بريجوجين من هذا المشهد الذي يمكن أن ينقلب رأسًا على عقب، ويتحول إلى نقمة على رأس الكرملين نفسه، نظرًا لأن بريجوجين ينتمي إلى اليمين القومي الروسي المتطرف، وهو بالفعل على يمين النخبة القومية الحاكمة في الكرملين نفسه.
وتابع الصباغ في تصريحات خاصة لـ"الدستور"، أما المشهد الثاني والأهم، هو زيادة اتساع نفوذ وتأثير عناصر فاجنر في المواقع الخارجية التي تعمل فيها بمعرفة النخبة السياسية الروسية الحاكمة وبدعم مباشر منها، ومن مؤسسات القوة، وعلى رأسها الاستخبارات العسكرية الخارجية ولكن روسيا، وبعد أن أصبحت موقنة تمامًا أن حربها في أوكرانيا ستستمر لسنوات طويلة، ومواجهاتها مع الغرب ستتواصل لسنوات أطول بكثير، كان عليها الاستدارة لمعالجة بعض الأمور ومنها نشاطات فاجنر في إفريقيا، والنظر في توسيع نشاطاتها على جبهات أخرى مثل الجبهة الأوروبية.
وأضاف الصباغ أن موسكو خلال شهري يوليو وأغسطس تيقنت أن خططها لتكرار سيناريو الكاريبي، وكل تهديداتها بالحرب النووية والحرب العالمية الثالثة باءت بالفشل، وعليها أن تعتمد استراتيجية جديدة أقرب إلى استراتيجية الحرب الباردة السابقة بين الاتحاد السوفيتي والغرب، وفي هذا السياق بدأت روسيا بالتوجه إلى إقامة أشكال وصيغ تحالفية مختلفة، وإحياء وتنشيط تحالفات قديمة، واستغلال ثغرات وأخطاء أمريكية وأوروبية، واستثمار عداوات وتناقضات بين الغرب وبعض الدول والمناطق. وكانت إفريقيا من أولى المناطق التي بدأت روسيا بتنشيطها، واستخدامها كساحة للمواجهة مع الغرب، أو في أحسن الأحوال كأداة لإعادة توجيهها إلى صدر الغرب نفسه، ومن أجل ذلك نشطت روسيا في العامين الأخيرين على المحور الإفريقي، واستخدمت فاجنر ووفرت لها كل الإمكانيات المادية والمالية والدعم اللوجستي إلى أن غطت نشاطاتها أكثر من 12 دولة إفريقية.
وأشار الصباغ إلى أن توجه روسيا إلى استراتيجية جديدة تشبه استراتيجية ومواجهات الحرب الباردة، أصبح مهددًا أمام نشاطات فاجنر بشكلها التقليدي الذي بات يشكل عبئًا على تحركات موسكو، وخاصة بعد قمة البريكس الأخيرة في جنوب إفريقيا وضم 6 دول جديدة، من بينها دولتان إفريقيتان هما مصر وإثيوبيا، أي أصبحت هناك 3 دول إفريقية في البريكس، إضافة إلى دول مثل الصين والهند والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبرازيل والهند وإيران، أي أن روسيا يجب أن تظهر بمظهر الدولة المسئولة التي لا تستخدم العصابات في مواجهاتها مع الغرب، ولكي تضمن لنفسها مساحة أكبر من المناورة الناعمة بتوجيه مجموعة البريكس وتحويلها من مجموعة اقتصادية إلى تكتل أمني وجيوسياسي تحت غطاء اقتصادي وجيو اقتصادي، في هذا السياق، تدرك موسكو جيدًا أن مصالح الصين في إفريقيا مهمة للغاية بالنسبة لبكين التي على استعداد لفعل أي شيء من أجل الحفاظ عليها، ولكن من جهة أخرى، لا توجد ضمانات كافية يمكنها أن تحد من طموحات فاجنر وقائدها اليميني القومي المتطرف ومقاتليه وبالتالي، كان يجب قطع رأس هذه المجموعة بهذه الطريقة أو تلك، لتحديد نفوذها وتقليص طموحاتها من جهة، وإحكام قبضة الكرملين عليها من جهة أخرى كمؤسسة تابعة وخاضعة تمامًا للكرملين ومؤسساته الرسمية، وكجزء من مؤسسة القوة العسكرية والأمنية الروسية.
وأوضح الصباغ أن شركة فاجنر ومقاتليها سيعملون ولكن في صيغة جديدة، وستواصل الشركة أعمالها ونشاطاتها في إفريقيا وفي بيلاروس وفي أوكرانيا، ولكن في إطار وزارة الدفاع وتحت سيطرة الاستخبارات العسكرية الروسية الخارجية، سواء ظلت بنفس الاسم أو تم تغييره وإعادة هيكلة الشركة.
وتابع الباحث في الشأن الروسي "في الواقع، لقد تم عمليًا تحويل قارة إفريقيا إلى ساحة للصراع بين روسيا والغرب، وأصبحت هذه القارة تشكل قنبلة موقوتة في وجه أوروبا تحديدًا، وبالذات فيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية بحجمها الحالي، وبانفجارها واتساعها خلال السنوات المقبلة نتيجة الحروب الأهلية، والحروب البينية التي يمكن أن تندلع لهذا السبب أو ذاك بين هذه الدولة أو تلك، وهو ما تظهر مؤشراته في النيجر والسودان وإثيوبيا ومالي وإفريقيا الوسطى وبوركينو فاسو، هذه الحروب الأهلية والبينية وعمليات النزوح والهجرة وعبور الحدود والبحار ستنعكس على دول شمال إفريقيا بشكل عام، وعلى الدول القريبة من روسيا، والدول الأعضاء في أي تكتلات تضم روسيا والصين، وقد ترفض أوروبا منح دول شمال إفريقيا مخصصات لوقف الهجرة غير الشرعية، وتبدأ هي بالدفاع عن نفسها عبر آليات أكثر قسوة وعنفًا، ستنعكس بدرجة أو بأخرى على دول شمال إفريقيا نفسها.
وأضاف الصباغ أنه من الصعب تصور نجاح روسيا أو الصين أو كلتيهما في مساعدة دول شمال إفريقيا التي ستصبح بين فكي كماشة الحروب الأهلية والبينية في إفريقيا وضغوط الهجرة والنزوح من جهة، وضغوط الغرب من جهة أخرى، والتزاماتها تجاه تحالفاتها مع روسيا والصين من جهة ثالثة، هكذا تتشكل ملامح المشهد المقبل خلال السنوات المقبلة على أرضية الصراع بين معسكر روسيا والمعسكر الغربي في إفريقيا وتحويل القارة إلى ساحة للحرب وبرميل بارود يهدد بالانفجار ليس فقط في وجه أوروبا، وإنما أيضًا في وجه دول شمال إفريقيا التي اختارت الانتماء إلى التكتلات الروسية أو التكتلات الروسية الصينية.
ولفت الصباغ إلى أنه في مثل هذا الوضع، لا يمكن أن يحتمل المشهد أي مفارقات كوميدية من قبيل رفع شعارات تنمية إفريقيا، أو المتاجرة بفقر إفريقيا واحتياجها، أو حتى استرجاع تاريخ الاستعمار والمتاجرة به واستخدامه كأداة ابتزاز واستقطاب، ولن يحل القمح الروسي المجاني أو غير المجاني أزمات إفريقيا، ولن تحل الأسلحة الروسية أزمات إفريقيا، بل على العكس سيساهم كل ذلك في استفحال الفقر والفوضى وتعميق الاستقطاب وتأجيل عملية التنمية، وهنا لا يمكن استبعاد الانسحاب الجزئي لبعض القوى الغربية من إفريقيا وترك الساحة جزئيًا لروسيا والصين في ظل الحروب الأهلية والبينية لتوريطهما من جهة، ولاستنزافهما من جهة أخرى، ولن تجدي أي استثمارات صينية أو قمح روسي في تلك المحرقة الإفريقية، فرءوس الأموال والاستثمارات تهرب من مناطق عدم الاستقرار السياسي والعسكري، كما لا يمكن استبعاد زيادة وتيرة نشاطات التنظيمات الإرهابية على مختلف أشكالها، وتصاعد العنف العرقي والطائفي.
الصباغ: فاجنر ستعمل مثل كل التنظيمات والعصابات والجيوش الفرعية في إفريقيا
وأضاف الصباغ أنه في هذا المشهد المأساوي ستعمل فاجنر مثل كل التنظيمات والعصابات والجيوش الفرعية في إفريقيا، وسيتم تبديد أموال طائلة على الدعاية والبروباجندا لتصوير أن الصراع يدور من أجل تنمية إفريقيا وتقدمها وتحضّرها، ولكن الجميع يعرفون أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، وقد تنزلق الصين أكثر فأكثر في مغامرات عسكرية وأمنية من أجل الحفاظ على استثماراتها الرئيسية، فتضطر إلى إرسال قوات وسفن لحماية مصالحها، سواء فعلت ذلك من قواعدها في جيبوتي أو نقلت قوات إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي.
وأكد الصباغ أن هذا السيناريو يسير بقوة الدفع الذاتي، ولا أحد يستطيع إيقافه، لا روسيا ولا الصين ولا الغرب، ولا حتى زعماء الدول الإفريقية، وإذا كان هناك من يرى أن وقف الحرب في أوكرانيا وانسحاب روسيا يمكنه أن يعمل على تهدئة الوضع في إفريقيا من خلال تهدئة المواجهة بين روسيا والغرب، فإن هذا التصور قريب إلى الواقع والمنطق والعقل، ولكن روسيا لن توقف الحرب ولن تنسحب من الأراضي الأوكرانية، وستتواصل الحرب في أوكرانيا لسنوات طويلة، وستبقى المواجهة بين روسيا والغرب حتى بعد انتهاء الحرب الروسية في أوكرانيا لحقب كثيرة، وبالتالي لا توجد الآن أي آفاق لأي حلول بالنسبة للمشهد الإفريقي الراهن، والمتوقع خلال السنوات القليلة المقبلة، وعمومًا فروسيا تراهن على إشعال إفريقيا أطول فترة ممكنة على أمل أن يؤثر ذلك على النفوذ الأوروبي السياسي والاقتصادي، ويحرم أوروبا من الموارد والخامات التي تشتريها من الدول الإفريقية، وبالتالي يمكن أن تظهر مشاكل وأزمات اقتصادية وسياسية في أوروبا، وهذه الفكرة قريبة من نفس فكرة روسيا في بداية غزو أوكرانيا عندما عولت روسيا على أزمة طاقة قاتلة في أوروبا ستقلب الحكومات والأنظمة وتثير الفوضى فيها، أو على أقل تقدير ستموت أوروبا من البرد، ولكن اتضح أنه سيناريو وهمي وبروباجندا لم تلبث أن أظهرت هشاشتها وتهافتها وسذاجتها.