توثيق يونيو
تمضي الأيام على الأمم والشعوب تمامًا كما تسري أحداثها على البشر، ففيها الحلو الذي يشتاق المرء إليه ويستعيد ذكراه ويسعد بسرد أحداثه. وفي المقابل هناك أيام عصيبة تمر بالإنسان فقد فيها عزيزًا أو فشل في تجربة أو رسب في تجاوز محنة، أو عجز عن اتخاذ قرار سليم وإذا به يتمنى لو فقد الذاكرة في ذكرى ذلك اليوم حتى لا تتداعى الذكريات الأليمة ولا يعيش من جديد لحظات مرت عليه قاسية من قبل. هكذا الإنسان وهكذا الأمم والشعوب أيضًا.
ونحن هذه الأيام تمر علينا الذكرى العاشرة لحدث فارق في مسيرتنا الوطنية، ستبقى تداعياته - بحلوها ومرها - مؤثرة في مسيرة هذا الوطن لعقود كثيرة قادمة، أعني بهذا أحداث ثورة 30 يونيو التي أكملت عامها العاشر هذا الأسبوع. ولأنه حدث مهم وفاصل وفارق ومؤثر فيما مضى من أعوام، وسيبقى كذلك بالفعل فيما هو آتٍ من سنين وعقود تمر بالمسيرة الوطنية، فإن توثيق أحداثه بما في ذلك الأيام الفارقة التي سبقته والأيام اللاحقة التي تبعته أمر مهم جدًا. هذا التوثيق ليس مهمًا بالنسبة لجيلنا الذي عايش الأحداث واتخذ موقفًا وتحمل نتيجة انحيازاته ولكن أهميته الحقيقية ستبقى حقًا أصيلًا لأجيال قادمة نخشى أن تباعد الأيام بينها وبين ما حدث على أرض الواقع، فتكون ضحية لمن يزيفون الحقائق ويعيدون برمجة الأدمغة لصالح مواقف أيديولوجية أو تحزبات سياسية.
وعلى هذا فإن توثيق ما تم في يونيو 2013 أمر ملح ومهمة قومية توجب على المنصفين القيام بها من فورهم وبحيادية تامة. وهذا ما بدأنا نشاهد بعضًا من ملامحه هذا العام مع الاحتفال بالذكرى العاشرة لثورة الشعب في 30 يونيو رفضًا لحكم الجماعة الفاشية وانتصارًا لمبدأ المواطنة ولمصلحة دولة ستبقى حدودها وأبواب مؤسساتها مفتوحة أمام جميع مواطنيها وهو ما كانت المؤسسة العسكرية - التي انتصرت للشعب في تلك الثورة وساندت قراره - قد فطنت إليه مبكرا، حين كلفت المخرج السينمائي خالد يوسف بتوثيق الزحف الشعبي نحو الميادين دعمًا للثورة وسعيًا لاستعادة القرار الوطني صوتًا وصورة.
وفي إطار هذا الملف بدأ عدد من البرامج الفضائية - ذات التوجه السياسي المعروف- في فتح ملف ثورة 30 يونيو 2013 من جديد لرصد ما حدث فيها من خلال استدعاء لقطات أرشيفية أو عبر حوارات يجريها عدد من صناع تلك البرامج مع شركاء فاعلين في الأحداث، أو أن بعض أصحاب تلك البرامج كانوا هم شخصيًا شهود عيان في أحداث الثورة بحكم مواقعهم الصحفية أو الإعلامية أو النيابية خلال الأحداث كالنائب والكاتب مصطفى بكري مثلًا. إذ وثّق بكري أحداثًا وقعت قبيل اندلاع الثورة وبعدها من خلال ثلاثية كتبه: «سقوط الإخوان» والذي يروي فيه اللحظات الأخيرة بين مرسي والرئيس السيسي، «عشرة أيام هزت مصر» والصادر عام 2017، ثم كتابه الجديد «الطريق إلى 3 يوليو» والصادر قبل أيام.
وهناك كتب أخرى صدرت في ذات السياق ككتاب د. جهاد عودة «سقوط دولة الإخوان»، وكتاب د. عادل عامر «سقوط جمهورية الإخوان»، وكتاب اللواء مصطفى كامل محمد «ثورة 30 يونيو وتأثيرها على المعادلات والتوازنات الاستراتيجية ودور مصر» . وفي عام 2019 أصدر د. محمد الباز كتابه «أيام مرسي»، ثم عاد في عام 2021 وأتبعه بكتاب «شفرة 30 يونيو». وهناك كتاب آخر سيبقى ضمن الوثائق التاريخية المهمة في هذا الصدد هو كتاب «سنوات الخماسين» للكاتب الصحفي الراحل ياسر رزق، والذي يرصد فيه ما وقع بين يناير «الغضب» عام 2011 حتى يونيو «الخلاص» عام 2013.
كما بدأت جهود توثيقية تليفزيونية بإنتاج عدد من البرامج التي ستبقى شهادة تاريخيًا بالصوت والصورة، شرعت في القيام بها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية. وقد شاهدنا في إطار هذا المشروع فيلمًا وثائقيًا بعنوان «وطن للجميع» وكان ذلك قبل عام مضى وبالتزامن كان هناك فيلم «القرار» والذي أخرجه مروان حامد، وقام فيه آسر ياسين بدور الباحث عن أسباب القرار وتداعياته. ونحن هنا بالطبع لا نرصد ما تم إنتاجه من قنوات غير مصرية، فهي أعمال جاءت في معظمها غير محايدة ومنحازة وفقًا لجهة التمويل والدولة أو الجهاز الذي يمتلك هذه القناة أو تلك.
أما هذا العام وفي إطار التوثيق أيضًا فقد تابعنا باهتمام جهدًا حواريًا متميزًا، شاهدناه باهتمام منذ مطلع شهر يونيو، عبر حلقات البرنامج الحواري التسجيلي «الشاهد» والذي عرضته قناة إكسترا نيوز التابعة للشركة المتحدة، متضمنا حوارات عميقة أجراها بحرفية شديدة الكاتب والإعلامي د. محمد الباز. التقى البرنامج خلال الحلقات بعدد كبير من الفاعلين في أحداث الثورة أمثال: محمد عبدالعزيز ممثلًا لحركة «تمرد»، النائب مصطفى بكري، الروائي يوسف القعيد، الكاتبة فريدة الشوباشي، القيادي السلفي د. يونس مخيون، رئيس مجلس شيوخ حزب النور، المفكر السياسي د. عبدالمنعم سعيد، المفتي السابق د. علي جمعة، القيادي الإخواني السابق مختار نوح، الفنان سامح الصريطي، الكاتبة د. لميس جابر، المخرج د. مجدي أحمد علي، المخرج خالد يوسف، الكاتب الصحفي أسامة سرايا، النائب سامح عاشور، الوزير حلمي النمنم وغيرهم من الرموز الوطنية التي شهدت الأحداث وكانت عنصرًا فاعلًا فيها.
ورغم تفلت عدد كبير لم يدركهم الباز إما بسبب رحيلهم أو مرضهم أو لبعدهم عن المشهد تمامًا أو لكونهم يتبوأون حاليًا مناصب لا تسمح لهم بالكلام في هذه المرحلة، إلا أنني أرى أن هذا الملف لا بد أن يكتمل - وإن كان بحلقة واحدة أسبوعيًا - بأن يستمر البرنامج في محاورة وجوه أخرى فاعلة في أحداث الثورة، حتى وإن اختلفت مواقفهم السياسية اليوم عمّا كانت عليه منتصف 2013. وعلى المتحدة أن تتيح مساحة أكبر في خريطة الإنتاج القادمة لقناتها الوثائقية لتوثيق ما حدث. كما يمكن للإذاعة أن يكون لها دور كبير في ذات الملف سواء دراميًا أو وثائقيًا أو حواريًا وهو جهد هناك في ماسبيرو من هم جديرون بالقيام به مهنيًا ووطنيًا والدعوة موجهة أيضًا لكل المفكرين من القوى السياسية التي حركت الثورة أو اشتركت فيها، فشهاداتهم اليوم حق للأجيال القادمة ووثيقة تاريخية ستثبت موقف الدولة المصرية وتفسر سر انحياز قواها للإرادة الشعبية في 30 يوينو 2013.