محمد الرز يكتب: ثورة يونيو والفدائى الأول
في الذكرى العاشرة لثورة 30 يونيو، يعود السؤال الأساسي إلى تصدر واجهة الاهتمامات: هل نالت هذه الثورة حقها الكامل في التحليل والتدقيق والوعي بكل أبعادها الوطنية المصرية والعربية والدولية؟
بادئ الأمر ينبغي التأكيد أن ثورة يونيو امتلكت كل المواصفات الثورية، فهي إرادة شعب ببرنامج استراتيجي معروف وبقيادة محددة الأهداف.
صحيح أن انتفاضة الشعب المصري في 25 يناير كانت وقفة مباركة لمواجهة الفساد وللاعتراض على انتهاك الديمقراطية، وعلى تغييب كل أمل لدى المصريين في مستقبل حر وعزيز، لكنها كانت من دون قيادة محددة، وإنما بقيادات متعددة لكل منها مشروعه السياسي بمثل ما غابت عنها وحدة الهدف، حيث كان الذين ادعوا قيادتها ينضوون تحت أهداف مختلفة، بل ومتناقضة في رؤاهم لمستقبل الوطن ودوره الإقليمي والدولي.
لقد كان نزول الشعب في يناير تعبيرًا طاهرًا عن إرادة المصريين، لكن منطق التعددية عند جبهة الأحزاب والتيارات حينها تغلب على القواعد المطلوبة للثورة والتغيير، ما أدى إلى اختراقات حصلت للإرادة الشعبية بعضها متسلق وبعضها منتهز وأخطرها تشريع بعض الأبواب أمام تدخل سفارات أجنبية وأجندات إقليمية قفزت على انتفاضة الشعب وأرادت تحويلها إلى برامج في مشاريعها تجاه المنطقة وتجلى ذلك في إيصال "إخوان الأطلسي" إلى سدة الحكم.
أما ثورة 30 يونيو، فكانت واحدة موحدة في برنامجها وأهدافها وأولها استعادة الروح الحقيقية لانتفاضة الشعب في يناير ووضعها في إطارها الصحيح بالالتحام الوطني الرائع بين الجيش والشعب على قواعد حرية القرار واستقلال الإرادة وأن تكون مصر لكل أبنائها الأحرار.
لقد كشفت المرحلة بين انتفاضة يناير وثورة يونيو عن العديد من الحقائق:
1- أن أصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد أرادوا من مصر أن تنزلق إلى قلب مشروعهم ولكي يتحقق هذا الأمر كان مطلوبًا أن تنقسم مصر إلى ثلاث دول ترزح تحت غائلة الفقر والعوز وتفتقر إلى أدنى مقومات التنمية وتنتشر فيها الفوضى "الخلاقة " وتنهار عملتها إلى الحضيض، وتتصارع هذه الدول الثلاث فيما بينها وترتبط كل منها بمرجع حماية إقليمي أو دولي.
2- أن يتم تعميم هذا النموذج الانقسامي على معظم الدول العربية وخاصة سوريا والعراق وليبيا والجزائر والمملكة العربية السعودية، فمصر هى حصن العرب وعندما ينهار ينفرط العقد العربي بأكمله.
3- أن هذا المشروع الخطير وقفت وراءه 45 دولة غربية بقيادة الولايات المتحدة وهو ما أفصحت عنه علنًا هيلاري كلينتون في مذكراتها.
4- خلق "إسلام جديد" في مصر يتم تحضيره وتقويته لينتشر في كل المنطقة العربية كما كشف عن ذلك رئيس الاستخبارات الأمريكية السابق جيمس ولسلي.
على أن يستتبع ذلك ابتداع "مسيحية جديدة" معادية للأرثوذكسية والكاثوليكية والكنيسة القبطية وتتوافق مع التيارات المسيحية العنصرية في أمريكا ودول الغرب.
5- أن يتم، وفق هذا المشروع، تقاسم المؤسسات والمناطق الحيوية المنتجة في مصر حيث تؤجر قناة السويس 99 سنة وتوهب حلايب وشلاتين للسودان، وتوضع آثار مصر تحت الوصاية الدولية ويتم اقتطاع جزء من سيناء لإقامة غزة الكبرى بما ينهي تمامًا أي تفكير بإقامة دولة فلسطينية في فلسطين.
6- أن تنضم دولة "الإسلام الجديد" في مصر إلى حلف "سانتو" إسلامي ملتحق تمامًا بالغرب ويشكل حاجزًا بوجه روسيا والصين ومنظومة البريكس، كل هذا المشروع الجهنمي كان في طور التأهيل خلال الفترة الممتدة بين انتفاضة يناير وتسلط "إخوان الأطلسي" على الحكم وبين ثورة يونيو.
ملايين الشعب المصري التي انتشرت في شوارع وميادين مصر مدعومة من القوات المسلحة نزلت، ليس فقط لتغيير حكم بحكم آخر، إنما لمواجهة المشروع الخطير الذي كان يُحاك ضد مصر ببنوده الستة كلها، فسقط ونهضت مصر التي اختارت الرئيس عبدالفتاح السيسي لقيادة المشروع الوطني المستقل في مواجهة التحديات الداهمة.
من يقرأ مذكرات هيلاري كلينتون بعد ثورة يونيو مباشرة يشعر وكان وزيرة خارجية أمريكا تعيش وسط زلزال ضخم، بل إن حالة من الإحباط سادت حكومات الدول الأجنبية الـ45 التي ساهمت بالمشروع الجهنمي، من فرنسا إلى ألمانيا وبريطانيا وأستراليا وكندا والسويد وبعض الدول الإفريقية وغيرها، كلها أسقط بيدها، وباتت تتحدث ساعة عن انقلاب وعن الحريات وعن الانتخابات، وساعة تهدد وتشهر سلاح العزلة ضد مصر وثورتها، لكن الوقائع على أرض مصر دحضت كل هذه المواقف، فسقط مخطط التقسيم بوحدة تاريخية متجددة ومتجذرة أثبت خلالها الأقباط أعلى درجات الولاء الوطني، وشهدت التنمية أكبر مرحلة نهوض في تاريخ مصر والساحة العربية برمتها لتتحول إلى نموذج يحتذى، وتسارع بناء الجيش كمًا ونوعًا ليصبح ضمن صفوف الجيوش الأقوى عالميًا، وتصدر المشهد السياسي المصري الذي حرص الرئيس السيسي على التعبير عنه، عاملان استراتيجيان هما: شجاعة الموقف وحرية القرار، بمعنى آخر أن السيادة الوطنية المصرية خط أحمر عريض.
بعد ثورة يونيو بأيام قليلة تم إلغاء اجتماع مدينة نيس الفرنسية لوزراء خارجية أمريكا وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل وغيرهم لتحديد ساعة الصفر لاحتلال دمشق وكان مبرر الإلغاء أن ما حدث في مصر قلب كل الموازين، بعد ثورة يونيو كل الدول الغربية استفاقت على مصالحها فهرولت لتصحيح علاقاتها بمصر.
بعد ثورة يونيو فتحت الطرق أمام علاقات صداقة واحترام مع روسيا والصين ومجموعة البريكس، أي أمام منطق تعدد الأقطاب في العالم، بعد ثورة يونيو عادت الروابط العربية إلى التضامن والتكامل.. بعد ثورة يونيو تم دفن الإرهاب المُصنّع أجنبيًا في رمال سيناء وجبال العراق وكثبان الخليج العربي .. صحيح أن أصحاب المشروع الشرق أوسطي لم يستسلموا وهم يحاولون التخريب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ضد مصر، لكن سدودًا عالية ارتفعت في وجه حساباتهم وحولتها إلى زبد وغثاء.
في أحد لقاءاتي التليفزيونية وصفت الرئيس عبدالفتاح السيسي بأنه الفدائي الأول، ومن يواجه كل هذه المشاريع والتحديات والمواجهات، فدائي بامتياز، هل استوفت ثورة يونيو حقها؟ يكفي أنها صنعت تاريخًا جديدًا لمصر ودنيا العرب سيبقى محفورًا في وجدان كل طلاب الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير.