الشيخ رفعت مطربًا| حكايات مجهولة لصاحب الصوت المعجزة.. غنى «أنت عمرى» و«أراك عصى الدمع» وعشق بيتهوفن
شهادتان تتنازعان أسبقية تقديم الشيخ محمد رفعت لأول مرة، ليصافح قلوب المستمعين عبر الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية- كما كانت تسمى- عند افتتاحها فى ٣١ مايو ١٩٣٤.
أما الشهادة الأولى فهى لحافظ عبدالوهاب، من الرعيل الأول للإذاعيين، مؤسس إذاعة الإسكندرية المحلية كأول إذاعة إقليمية فى مصر، فضلًا عن أنه الذى منح المطرب عبدالحليم شبانة أول فرصة للغناء، بعد أن كان عازفًا مغمورًا، ليصبح اسمه عبدالحليم حافظ.أكد لى حافظ عبدالوهاب، فى حوار معه مطلع ثمانينيات القرن الماضى، أن الشيخ رفعت قدم طلبًا رسميًا للإذاعة ليكون هو المذيع الذى يقدمه دائمًا للمستمعين من خلال ميكروفون الإذاعة.
أما الشهادة الثانية، فهى رغم نسبتها لمحمد فتحى الشهير بـ«كروان الإذاعة»، لم يزعمها لنفسه، لكن نسبها إليه مدحت عاصم، مؤسس الموسيقى والغناء فى الإذاعة، وهو أحد قادة الفدائيين فى معارك القناة فى خمسينيات القرن الماضى. كما سنعرض لشهادات أخرى لمعاصرين شهدوا مولد «الصوت المعجزة»، مثل عبدالوهاب وأحمد رامى وأم كلثوم، ونتعرف كيف أن «رفعت» له أسطوانة غنى فيها إحدى القصائد.
الأغنية كانت على أسطوانة قديمة.. وأُذيعت فى «صوت العرب» عام 1963
عثر المخرج الأديب زكريا شمس الدين على أسطوانة قديمة مليئة بـ«الخشخشة» يُغنى فيها الشيخ محمد رفعت. وبعد جهد شاق طويل استطاع أن ينقل هذه الأسطوانة على شريط، بعد تنقيتها من هذه «الخشخشة».
وفى ٦ فبراير ١٩٦٣، فى برنامج «أهل الذكر»، من إعداد محمود السعدنى وإخراج زكريا شمس الدين، استمع الناس من «صوت العرب» فى مصر والبلاد العربية إلى الشيخ محمد رفعت وهو يُغنى قصيدة مطلعها: «بحق هواك يا من أنت عمرى».
يرى الموسيقار مدحت عاصم أن الشيخ «رفعت» موسيقىّ من الطراز الأول، كذلك يرى نقاد الموسيقى أنه لم يكن مجرد قارئ للقرآن الكريم، يتلوه بأنغام ومقامات صوتية مختلفة، كما يفعل غيره، بل كان «معجزة موسيقية كاملة»، فقد اجتمع فى إنشاده وصوته كل ميراث الحنجرة العربية من الأنغام والأوتار الصوتية والمقدرة الخلاقة، فضلًا عن استيعابه الكامل معانى القرآن الكريم، وتمثيله إياها للناس، كأنما يلمسونها بالأيدى ويرونها بالأعين، فلا تسمع له وقفة غير مستساغة، سواء أطال بها النفس أم قصر، سواء اختار حركة الربط فى الوقف أبعد طريق أم أقربه.
وما كنت تحس أبدًا فى نبرات صوت الشيخ «رفعت» شيئًا من التخلخل أو النشاز، أو الخروج على مجرى النغم، كان يتحكم فى صوته، يبتدئ به كما يريد، ويقف به حيث يريد. وقد بلغ حب الناس له حدًا يجعلك تؤمن بأن خيوطًا تمتد بين روحه وأرواح الآخرين.
واستطاع ذلك الفتى الضرير النحيل أن ينتزع مكانه كمقرئ كبير وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، بعد أن اجتمع فى صوته وإنشاده كل مقومات الصوت الذى يهز وجدان السامع، ويثير فى نفسه كوامن الإيمان.
لقد أثبت بترتيله الساحر موسيقية القرآن الكريم، فشدوه الفريد فى تسلسله وامتداده يريك من فنون البلاغة أعاجيب، فيظهر لك انسجام الألفاظ وتآلف المعانى وقوة التصوير وروعة الإيحاء، فى بساطة معجزة.
كان يعرف مواضع الترهيب والزجر، وأساليب التشويق والترغيب، فيكون فى الأُولى إعصارًا عنيفًا، وفى الثانية نسيمًا رقيقًا. ولم يكن الشيخ «رفعت» فنانًا فى أدائه الصوتى فحسب، بل كانت روح الفنان تغمر جوانب مضيئة من حياته.
لم يكتف بما حصله من ثقافة القرآن وتلقى دروس فى تفسير القرآن، وفى علم القراءات السبع، وإنما اتجه إلى دراسة الموسيقى كعلم له قواعد وأصول، تعرف على كبار الملحنين، وحفظ منهم عشرات الأدوار والطقاطيق والمواويل والتواشيح والقصائد الدينية، وتعلم أيضًا العزف على العود، ومبادئ العزف على بعض الآلات الأخرى.
ولعل الشىء الذى لا يعرفه الكثيرون، كما يقول عبدالفتاح غبن، أنه كان صديقًا روحيًا للموسيقار العالمى «بيتهوفن»، فقد كان يستمع إلى موسيقاه «خلسة» فى الليل، حتى لا يُتهم بـ«الكفر» أو بـ«التفرنج».
وعندما ودع حياته فى ٩ مايو ١٩٥٠ وأحصيت تركته، وجدت عنده مكتبة كاملة تحوى جميع سيمفونيات «بيتهوفن».
الشيخ «موسيقىّ» من الطراز الأول.. وكان يعزف على العود
يتذكر الشاعر أحمد رامى: «سمعت الشيخ رفعت فى شبابى، وهو فى أتم صحة.. كان تحفة من تحف الزمان.. وهو كان صديقًا لعبدالوهاب، وكنا لما نجتمع نتظرف فى الجلسة، وكان يقلد صوت المنادين على البضائع.. كان لطيفًا جدًا». أما «عبدالوهاب» نفسه فيؤكد ما قاله «رامى»، معبرًا عن افتتانه به بقوله: «نشأت بينى وبين الشيخ رفعت صداقة عميقة، فكان يدعونى لأسهر معه فى بيته بحى البغالة، وكان يُغنى لى بعض القصائد فى رخامة ساحرة، وأحيانًا كان يقلد نداءات الباعة فى ظرف بالغ».
ويضيف: «وعندما كنت أستمع إليه وهو يقرأ القرآن الكريم، أتحول من صديق إلى خادم وأجلس تحت قدميه، وأنا أستمع إليه فى خشوع والدموع تنهمر من عينى.. فقد كنت أحس بأنه بين يدى الله فعلًا».
ولإعجابه الشديد بصوته، يدعو «عبدالوهاب» أصدقاءه لسماعه، ومنهم الموسيقار مدحت عاصم، الذى يروى للباحث عبدالفتاح غبن ذكرياته عن لقائه بـ«الشيخ رفعت» فيقول: لا أنسى يومًا لقينى الصديق الحبيب محمد عبدالوهاب، ونحن فى فجر الشباب، ليقول لى إنه يدعونى إلى صلاة الجمعة فى مسجد الشيخ فاضل، وأثارت هذه الدعوة دهشتى، فقال لى عبدالوهاب إنه يحرص على مصاحبتى لأمر سوف ينكشف لى فيما بعد.
ذهبت معه إلى مسجد «الشيخ فاضل»، وهناك وجدت جمعًا غفيرًا من الناس يجلسون فى خشوع وهم يتجهون بأبصارهم وأسماعهم إلى شيخ معمم نحيل الجسد، رقيق البنيان. أجلسنى «عبدالوهاب» قريبًا من الشيخ رفعت، والتفت فوجدت مجموعة من أئمة القراء وأعلامهم يجلسون فى نفس الصف، منهم الشيخ درويش الحريرى، والشيخ على محمود، والشيخ محمود صبح.. وغيرهم.
بدأ الشيخ محمد رفعت يتلو آيات الذكر الحكيم، وسكن الناس حتى لا تسمع أنفاسهم، وانطلق الصوت هادئًا خفيضًا، وإذا بالشحوب فى وجهه تكسوه نورانية، وإذا بالنبرات تنساب وكأنها صادرة من آلة ربانية، لا هى بالكمان ولا هى بالناى، ولكن فيها شيء من هذا وذاك تزاوجا ليكون منهما سحر ينساب إلى الأسماع ويتسلل إلى أعماق الروح فتصفو وتسمو، ودموع الخشوع والرهبة والإيمان تترقرق فى المآقى، وتسود الجميع طمأنينة الإيمان.
عبدالوهاب إلى جانبى يضغط على ذراعى كلما بلغ شيخنا قمة من قمم الأداء حتى فرغ، وقام الناس إلى الصلاة، وما إن انتهينا منها حتى قام عبدالوهاب ليعرفنى بالشيخ محمد رفعت.. وكان هذا أول لقاء لى به.
توطدت بيننا أخوة صافية، وعرفت من خلالها أن الشيخ محمد رفعت موسيقىّ من الطراز الأول، وكان هذا شأن أغلب القراء، فقد كان يعزف على العود، ويؤدى بمصاحبته التواشيح الدينية كما لم تؤدها حنجرة مدربة على الغناء، وعبدالوهاب إلى جانبه يصاحبه بصوت خفيض، وكأنه يتلقى أصول الأداء وأساليبه.
والحق أن أداء الشيخ رفعت لم يكن له مثيل ولا شبيه، وأكثر ما تميز به إلى جانب خشوعه هو الانسياب والتسلسل بين الكلمات.