"هديل اليمام والنخيل فى بر مصرى".. ما هى مصادر السلام عند جمال الغيطانى؟
"سلام لهديل اليمام، وترنيمة القمرى، والظلال قبل الأصول، لساعات العصارى، وغيوم الشتاء، والعجين عندما يفور، والنهر إذ يسرى.. سلام للنخيل فى بر مصرى، لأشجار الجميز، لأم الشعور التى تميل لتغمس أغصانها فى الترع الحاملة للمياه".. بهذه الكلمات البسيطة المليئة بالبلاغة، عبر الكاتب الراحل جمال الغيطاني عن مفهومه الخاص للسلام.
وفي ذكرى ميلاده، الذي يصادف اليوم الموافق 9 مايو 2023، نأخذكم في رحلة ممتعة، مع واحد من أجمل نصوص الكاتب الأدبية، وكأنه يودع الكون بكلمات بسيطة يربطها جميعًا "السلام".
سلام للفنان المجهول
وعن أقرب مسجد وكنيسة من قلبه، يكمل جمال الغيطاني: "سلام لهذا الفنان المجهول الذى رسم أجمل نقوش ورسوم مصرية فى تاريخ الإنسانية. سلام لإيوان القِبلة فى السلطان حسن، للزجاج المعشق بالجبس فى مسجد قايتباى وقجماس الإسحاقى، أما الكنيسة المعلقة فلرمزية بنائها السلام والإعجاب، من يخطر له فى البشرية بناء معبد دينى على فراغ، على هيئة سفينة. سلام لقبة قلاوون، لمآذن القاهرة، ما من واحدة تشبه الأخرى، سلام لواجهة الأقمر التى تثير فىَّ الشجن، ولتواضع مسجد سيدى مرزوق، وللفنان المجهول الذى رسم الأشجار على واجهة مدخل الأزهر، ولمن لا أعرفهم من الخطاطين".
وتعود كتابة الروائى جمال الغيطانى (1945-2015) لهذا النص، قبيل إجراء عملية جراحية له، وكأنه يشير بيديه لمعالم الجمال المصرية، ومصادر السلام في وطنه، ومفاهيمه الخاصة للسلام.
سلام للمقامات وللملحن المصري القصبجى
وفي عالم الألحان والموسيقى، كانت آذان جمال الغيطاني، تعرف طريقها للحن الجيد، والمقام الأقرب للقلب، فقال: "سلام لمقام الصبا أقربها إلى روحى، سلام إلى نهاوند، والمقام النادر زنجران، سلام لسماعى رصدًا لمحمد القصبجى العبقرى الذى لا أعرف كيف لزم الصمت بعد أن أبدع رائعته "رق الحبيب". سلام للشيخ سلامة حجازى، لعبده الحامولى، لمحمد عثمان، لمحمود الشريف، للشيخ زكريا أحمد، للشيخ إمام، سلام للموسيقى الصينية ورباعيات بيتهوفن الوترية والمؤثرة لتشايكوفسكى، ولكل ما أحببت من موسيقى العالم. سلام سلام لصاحبة الصوت الدرى، الكوكبى، المتلألئ ليلى مراد".
ويلقى السلام على الشيوخ الأجلاء، الذين أثروا بشكل خاص في تكوينه السمعي: "سلام بوسع الكون للشيخ محمد رفعت، للشيخ مصطفى إسماعيل، للشيخ طه الفشنى، للشيخ على محمود، للشيخ البنا، سلام للطيور المجهولة التى ما زلت أسمع أصواتها فى خلفية أذان الشيخ محمد رفعت".
سلام للخبز البلدي ولمن اخترع الطعمية
وعن حب الحياة، ومذاقها الأصيل واللاذع وأكلاتها الشعبية، يلقى جمال الغيطاني السلام: "سلام لمذاق الأشياء، سلام لبقايا التوت وثمار أشجار الدوم والحرنكش والنبق والخبز البلدى لحظة خروجه ساخنًا من الفرن ولقائه بالملوخية الخضراء، أو الفول المحوج".
ويضيف: "سلام لمن اخترع الطعمية، كباب الفقراء، سلام للخبز المصرى الذى تقارب أنواعه الألف، الشعب الوحيد فى العالم الذى يقدس الخبز ويسميه "العيش" أى الحياة، ويتعلم أطفاله أن يبوسوا اللقمة ويضعوها بجوار الجدار.. سلام للطيور وعشقى لها أصيل.. ضيعتها المدن منا.. سلام لكل من سعى بالعلم والحكمة من أمحتب إلى نجيب محفوظ وأبنائه وأحفاده.. سلام للفرات الهائمة، ولكل حىٍّ، ولكل من عبر، سلام للمن والسلوى".