زيارة جديدة لـ«نصر حامد أبوزيد» 12
محمد الباز يكتب: إمام التفكير.. كيف خدم نصر أبوزيد الإسلام؟
- رغم أنه صاحب مشروع تجديد متكامل فإنه لم يكن يسعد كثيرًا بالإشارة إليه على أنه صاحب مشروع فكرى
قد يكون هذا بالفعل هو السؤال الأهم فيما يخص نصر حامد أبوزيد؟
المسلم العادى الذى لا ينتمى إلى تيار سياسى أو جماعة تحكمها أيديولوجية معينة، ولا يميل إلى جانب من جانبى الصراع فى قضية الباحث الذى تم تكفيره لمجرد أنه يفكر، لن ينشغل كثيرًا بالتفاصيل، ولكن تشغله النتيجة، فما الذى أضافه نصر للإسلام؟ هل خدمنا بدراساته وأبحاثه، هل كان لما قدمه نتيجة تطبيقية على الأرض؟ أم أن الأمر كله هواء فى هواء.
لن أستسلم هنا لمن يدافعون عن نصر حقًا وباطلًا، ولكن سأضع أمامكم كلامه نصًا من حواراته التى امتدت على طول سنوات نفيه، وهى الحوارات التى كان لا يحاول من خلالها الدفاع عن نفسه فقط، ولكنه كان يسعى جاهدًا لشرح مقاصده ومراميه، ويدلل على ذلك، علّ الناس يفهمونه، وهو الذى سدت أمامه كل الطرق لعقولهم وقلوبهم أيضًا.
فى مجلة «الثقافة الجديدة» السورية، وفى عدد أكتوبر ٢٠٠٩، أى قبل وفاته بشهور قليلة أجرى نصر أبوزيد حوارًا من حواراته المطولة، فى صلبه نجد إجابة واضحة وتطبيقية عن السؤال الكبير الذى يمكن أن يستغربه البعض، وهو: كيف خدم نصر حامد أبوزيد الإسلام؟
وقبل أن تتعجب وتقول: وهل خدم أبوزيد الإسلام؟
سأقول لك: استمع إلى أسئلة ياسين النصير الذى أجرى الحوار، وإلى إجابات نصر عنه، لتعرف الإجابة بنفسك.
ياسين النصير: أنت مشهور بطبيعة هى من أصعب الأنواع حقيقة، فأنت تنقد النص من داخله، بالانتماء إليه، وليس بالخروج عليه، وهذا الميدان يمكن أن يكون من أصعب الميادين فى فهمك من قبل القارئ، كيف يكون نصر حامد أبوزيد مؤمنًا حقيقة بهذا النص ويوجّه له النقد؟ هل هناك فرق بين النقد من خارج النص والنقد من داخل النص؟
الدكتور نصر: دعنا لا نقول من داخل النص أو من خارج النص، بل النقد من داخل الانتماء لهذا الفضاء الثقافى الحضارى، الفضاء الذى نسميه الحضارة العربية والثقافة العربية والإسلامية، أنت وأنا ننتمى لهذا الفضاء بصرف النظر عن أنك تنتمى لهذا الدين أو لهذه العقيدة أو لا تنتمى، نحن ننتمى لهذا الفضاء العربى الإسلامى، الذى هو مكون تاريخى وثقافى وأدبى، ناهيك عن أن تمارس النقد من داخل هذا الفضاء، من حقنا جميعًا ونحن ننتمى إلى هذا الفضاء أن نقوم بعمل قراءة نقدية لكل النصوص التراثية، إنها ثقافتنا ومن حقنا، بل من واجبنا أن نقف ضد هذا التجمد الذى أصيبت به، وهذا الاختصار والانحصار الذى وصلت إليه.
النقد من الداخل يعنى النقد وأنت تنتمى إلى هذا الفضاء، مسألة أن يكون الإنسان مؤمنًا أو غير مؤمن مسألة لا علاقة لها بالانتماء، والحق فى النقد من الداخل بحكم هذا الانتماء، تبقى قضية الحكم بالإيمان أو عدمه قضية يجب أن نقف ضدها جميعًا، يجب أن نرفض منطق أن الشخص المؤمن وحده هو الذى من حقه أن يتكلم، وأن غير المؤمن يلزم الصمت.
ثمّة شواهد كثيرة جدًا تكشف حيوية الثقافة العربية الإسلامية فى العصور القديمة، حتى فى القضايا التى أوجه لها الآن نقدًا شديدًا، المفاهيم المتعلقة بالشريعة مثلًا كانت فى التراث الكلاسيكى أكثر حيوية إذا قورنت بالشريعة كما تطرح الآن، إذا قارنت فقه «أبوإسحاق الشاطبى» مثلًا بفقه هذه الأيام تصاب بحالة من الحزن الشديد جدًا، لأن معرفة فقيه اليوم بالفقه القديم معرفة هامشية جدًا ومشوهة إلى حد كبير.
محاولة ربط الجذور المستنيرة فى تاريخك الثقافى، وتطويرها من خلال المعرفة الإنسانية المعاصرة، هى مشاركة فى صنع التاريخ بديلًا عن تجميد التاريخ.
مشروعية النقد من الداخل لا تنفى حق النقد من الخارج، من حق من لا ينتمى إلى هذا التراث، الباحث الأوروبى أو الأمريكى أو اليابانى أن ينقد التراث العربى، أى من حقه أن يدرسه دراسة نقدية، وعلينا أن نحترم هذا النقد من الخارج ونقدره.
ياسين النصير: هل هناك نتائج ملموسة لهذا النقد من الداخل أو النقد الانتمائى، يعنى نتائج على المستوى المعرفى، على مستوى الجامعة، على مستوى الوعى الثقافى العام على مستوى فهم الريادة للحركة الحديثة؟
الدكتور نصر: أعتقد أن هذا النقد الانتمائى حقق بعض النتائج الإيجابية، مثلًا مسألة تاريخية المعنى القرآنى التى سببت كارثة شخصية، أصبحت هذه التاريخية مقبولة قبولًا ضمنيًا، وإن لم تستخدم كلمة «تاريخية» استخدامًا صريحًا.
أعنى مفهوم «التاريخية» الذى اعتبر هرطقة وردّة عام ١٩٩٥، تسرب فى الوعى الدينى التقليدى واخترقه، مثلًا رد شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوى على مسألة ضرورة أن يدفع أقباط مصر الجزية لإعفائهم من الخدمة العسكرية فى حال وصول الإخوان المسلمين للحكم فى مصر وأقاموا دولة الشريعة.
رد شيخ الأزهر بأن مسألة الجزية كانت ممارسة تاريخية، جاء ذلك فى سياق الرد على مرشد الإخوان المسلمين عندما قال فى حوار مطول إن الأقباط إخوتنا، ولكن يجب ألا يخدموا فى الجيش، حتى لا نعرضهم للحرج فى حال قيام حرب مع دولة مسيحية، لهذا يجب أن يدفعوا ضريبة الإعفاء من الخدمة العسكرية، أى الجزية.
هذا الرأى أغضب المصريين كلهم، فقد ألغيت الجزية فى مصر أواخر القرن التاسع عشر، شيخ الأزهر فى رده على هذا، قال إن الجزية كانت ممارسة تاريخية، نعم كانت ممارسة تاريخية، ولكنه كان يعرف جيدًا أنها منصوص عليها فى القرآن «حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».
لا يجرؤ شيخ الأزهر أن يقول إن كلامه معناه أن القرآن «نص تاريخى»، لكن تسربت فكرة التاريخية لوعيه لتحل له هذه المشكلة، لا يستطيع شيخ الأزهر ولا أى واحد ينتمى إلى أى من المؤسسات الدينية أن يقول إن هذا النص، أو هذا الجزء من النص أصبح غير تاريخى، يعنى أنه أصبح غير قابل للتطبيق.
الأمر نفسه ينطبق على النصوص والأحكام الخاصة بالعبودية، أصبحت نصوصًا تاريخية، بمعنى آخر التأريخ يؤدى إلى عملية من الممكن أن نسميها نسخًا، أى نسخ الحكم مع وجود النص، الفقهاء التقليديون لهم حيل، يجب على العقل النقدى أن يتصدى لها، هذه الحيل يمكن أن تقول: لا.. هذا ليس نسخًا، إنه لا يجوز أن ينسخ شىء من القرآن إلا بالقرآن، هذا نسىء، ماذا يعنى نسىء؟ يعنى تأجيل تطبيق حكم النصوص الخاصة بالعبودية تأجيلًا مؤقتًا، لأنه من الجائز أن تعود العبودية ثانية فتبقى هذه النصوص فاعلة، هذا معناه أن هذا الفقيه لا يحيا على العالم، لا علاقة له بالتاريخ، ولا ينتمى للتاريخ، ولا يفهم التاريخ.
النموذج الثانى لهذا الفقه الغائب عنه التاريخ مقالة قرأتها فى إحدى المجلات العربية، القرآن يتكلم عن حكم النساء اللاتى لم يحضن بعد موت الزوج، هذا معناه أن القرآن يتعامل مع واقع تاريخى، كان زواج الصغيرات فيه مشروعًا بحكم التقاليد والعادات والأعراف، الشيخ الفقيه يستنبط من هذا النص جواز الزواج من الفتاة التى لم تحض، أى لم تبلغ سن الحيض، هنا تؤخذ الشواهد النصية التاريخية من أجل أن يقال إن الزواج من الصغيرة شرعى، بغض النظر عن أن القرآن يتعامل مع حالات موجودة فى واقع ولا يؤسسها، القرآن لا يقول تزوجوا المرأة التى لم تحض، كون القرآن يضع حكمًا لعدة المرأة التى مات عنها زوجها، ليس معناه أن القرآن يؤسس قاعدة للزواج بالصغيرة.
هذا العالم الفقيه لا يعيش بيننا، بل يعيش فى القرن السابع ويريد أن يقف ضد التطور الذى حصل فى المجتمعات العربية، ضد الحقوق التى أعطيت للمرأة، إنه يقول للمسلم: من الممكن أن تتزوج من بنت عمرها عشر سنوات، لأنه كان فى العصر الفلانى يزوجون البنات قبل ما يبلغن سن الحيض، هنا ينبغى أن نتصدى لمثل هذا العبث، الذى يسىء إلى الدين وإلى التاريخ وإلى الواقع.
بصياغة أخرى لكن بنفس المعنى، وفى حوار أجراه محمد على الأتاسى الذى كان يعتبره نصر تلميذه وابنه، سأل التلميذ أستاذه: لماذا لا يزال منهج النقد التاريخى عاجزًا عن الدخول بأسئلته إلى داخل الفكر الدينى، إذ نراه أحيانًا أسير هذا الفكر؟
قال نصر: الصورة تبدو كذلك لكنها صورة خاطئة، وسأعطيك نموذجين لفكر دينى تقليدى يعمل وفق آلياته الخاصة، لكنه متأثر بالتحدى الذى يطرحه منهج النقد التاريخى، وإن لم يعترف بذلك.
المثال الأول هو فتاوى الشيخ يوسف القرضاوى فى خصوص علاقة الرجل بالمرأة، وما يرتبط بحياة المسلم فى أوروبا، فالقرضاوى وإن كان لا يسلم بفكرة التاريخ لكونها خارج إطار وعيه، متأثر بالتحدى الذى تطرحه هذه الفكرة، وهى فاعلة رغمًا عنه، فى نطاق الفتاوى التى يصدرها من خلال المجلس الأوروبى للفتاوى، هذا ما دفعه إلى القول بأنه يجوز للمرأة غير المسلمة التى تحولت إلى الإسلام أن تبقى على زواجها من غير المسلم.
وإذا كان القرضاوى لم يبنِ اجتهاده على قاعدة ثورية فى اللاهوت، أو على قاعدة الحرية، بل على قاعدة الدعوة، ومن أجل تحبيب الناس فى الإسلام، فإن داخل قاعدة الدعوة التى يعلنها وداخل هذه الفتوى توجد كل إجراءات النقد التاريخى.
المثال الثانى يعود فيه نصر حامد أبوزيد مرة أخرى إلى واقعة مرشد الإخوان والجزية.
يقول: المثال الثانى هو رد شيخ الأزهر سيد طنطاوى، على مرشد الإخوان مصطفى مشهور حول موضوع الأقباط والجزية، فالشيخ طنطاوى قال إن الجزية كانت ممارسة تاريخية، وإذا أنت جلست مع الشيخ طنطاوى وسألته: ممارسة تاريخية إزاى؟ ده قرآن؟ بمعنى أن تسأله: هل تقول بأن هذا النص القرآنى أصبح غير صالح؟ فأنت تكشف له هنا أن مفهوم القرآن كنص تاريخى تسلل إلى لا وعيه.
إن العلاقة التى تبدو ساكنة بين الخطاب الدينى ومنهج النقد التاريخى فى أفق الخطاب العام، مردها إلى أن هذا الخطاب فى يده مؤسسات، وفى يده سلطة، وهو متماهٍ مع السلطة؟
وعندما جلس « يوجيندر سيكاند» مع نصر ليحاوره، سأله بشكل مباشر: هل تستطيع أن تعطينا مثالًا يوضح كيف أن التأويل التاريخى للقرآن سيسهم فى دعم حقوق الإنسان؟
وكانت إجابة نصر: فلنأخذ مثلًا قطع يد السارق، أى حد السرقة، يرى التقليديون فى هذا الحد عقوبة إسلامية، يجب أن تطبق فى الحاضر والمستقبل أيضًا، ولكن القراءة التى تعتمد فهمًا تاريخيًا للتراث الإسلامى ستبرهن بسرعة على أن هذا الحد ما هو إلا اقتباس من المجتمع العربى قبل الإسلام، وأنه كان متجذرًا فى سياق اجتماعى وتاريخى له خصوصيته المغايرة تمامًا عن السياق الراهن.
ولهذا من الممكن أن نستخدم الحجة القائلة بأن إلغاء مثل هذه العقوبة لا يعنى بأى حال من الأحوال الإسلام كله، عندما نضع القرآن فى سياقه على هذا النحو، عندئذ سنستطيع أن نتغلغل لنصل إلى كنهه الحقيقى الذى- من ناحية أخرى- يمكن اعتباره صالحًا لكل الأزمنة، إن علينا أن نقوم بنزع الغلائل عن القرآن، وأن نخلصه مما علق به خلال سياق تاريخى معين لم يعد موجودًا اليوم.
يطلب سيكاند أيضًا أكثر، فيسأل نصر: ما الذى يمكن أن تضيفه إذن القراءة التى تعتمد السياق التاريخى للقرآن للإسلام اليوم؟
يجيب نصر: حسب رؤيتى، فإن الاتجاه السنى فى الإسلام قد تجمد إلى حد كبير عن الوضع الذى صاغه الأشاعرة المحافظون فى القرن التاسع الميلادى، علينا أن نعيد التفكير اليوم فى الأسس الفقهية التى تجاهلها علماء السنة تجاهلًا شبه تام، فدون إصلاح الفقه فى الإسلام لا يمكن إصلاح المجتمعات الإسلامية، معظم المساعى الإصلاحية فى العالم السنى لم تستطع حتى اليوم أن تخرج عن إطار الفقه التقليدى، ولذلك فإنها تعجز عن المضى بعيدًا.
لم يكن نصر مغرورًا ولا متعاليًا، فرغم أنه صاحب مشروع تجديد متكامل، فإنه لم يكن يسعد كثيرًا بالإشارة إليه على أنه صاحب مشروع فكرى.
سأله سيكاند: ما مشروعك الفكرى والسياسى والأيديولوجى؟
قال: أحيانًا أشعر عندما يتحدث شخص عن مشروع فكرى تظهر بعض المبالغة وأنا أخاف من كلمة مشروع، أنا رجل باحث، بمعنى أننى أحاول أن أبلور إجابة عن سؤال يدفعنى إلى مزيد من الأسئلة، وبالتالى مزيد من اختبار مجالات الباحث، طموحى الذى لا أعرف هل سيتحقق أم لا، أن يكون هناك تفسير للقرآن يضع فى اعتباره كل العوامل والمحددات والشروط المرتبطة بتاريخ القرآن، المرتبطة بنوعية القرآن، المرتبطة ببناء القرآن، المرتبطة بمستويات الخطاب بالقرآن، وأن هذا المشروع ليس مشروعًا شخصيًا إنما تحققه مؤسسة، وهذا الأمر للأسف نفتقده فى العالم العربى والإسلامى، الأمر يحتاج إلى هذا المشروع، لماذا القرآن؟ لأن القرآن هو النص المؤسس بناءً على تحديد طبيعة القرآن ومستوياته وتركيبه، تحدد دور النصوص الأخرى مثل السنة ومثل الإجماع.
وكان طموحى أن أسهم فى تدريب مجموعة من الباحثين فى العالم العربى، الذين يمكن أن يكونوا نواة تطوير هذا البحث، أنا أحاول أن أعرض ذلك من خلال كتبى، وأنا سعيد بأن كتبى ترجمت إلى كل اللغات فى المجتمعات الإسلامية، وهذا هو الذى يهمنى ولا تهمنى أوروبا، كتبى ترجمت للفارسية وترجمت فى إندونيسيا، وإلى التركية.
أنا طموحى معرفى، وهو إعادة الصلة بين الروحانية والدين، وبين العقلانية والروحانية والدين مع بعض.
وبصراحة مطلقة يعترف نصر: أنا رجل علمانى، ولكن ليست العلمانية المضادة للدين، أو المخالفة للدين، ولكن العلمانية التى ترى أن للدين وظيفة فى المجتمعات لا يمكن الاستغناء عنها، وأن الدين هو جزء من الخبرة البشرية والتجربة الإنسانية، وأن الإنسان دون دين أو دون مفاهيم دينية يعانى من فراغ إلى حد كبير.
وفى حواره مع ناظم السيد، نجد أنفسنا أمام الإشكالية الكبرى أو الاتهام الكبير الذى لا يزال يلاحق نصر، فمن يريدون تجريده من كل شىء، يقولون إن نصر أبوزيد قال إن «القرآن نص تاريخى»، وهو يعنى بذلك أنه ليس من عند الله.
سأل ناظم نصر: عندما تقول «القرآن منتج ثقافى» أو «القرآن ظاهرة تاريخية» أو «القرآن منتج لغوى».. هذا التوصيف العلمى إلى أين يؤدى؟
ويجيبه نصر: ليس هذا هو السؤال، السؤال هو: كيف وصلت إلى هذه النتيجة؟ هذا هو الأهم، وليس إلى أين يؤدى؟ عندما تسأل إلى أين يؤدى فإنك تعبر عن مخاوف، تعبر عن رعب وفزع من المعرفة، لم تتم مناقشة المقدمات التى أوصلتنى إلى هذا الاستنتاج الذى لا ينكر مصدر القرآن الإلهى.
الفزع مما يؤدى إليه هذا الاستنتاج هو فزع على الإيمان، ورقابة على الإيمان، فلنفترض أن كلامى سيؤدى إلى كفر بعض الناس، فلنفترض هذا، أنا لست رقيبًا على إيمان الناس.
والسؤال عن أين يؤدى ذلك هو سؤال نابع من هذا الفزع، نابع مما يسمى حماية عقائد العامة، هذا الكلام يضعنا فى العصور الوسطى، وكأننى أكتب كلامًا لناس جهلة يحتاجون إلى من يحميهم من الكلام، أنا أدرس فى الجامعة، ومهمتنا أن نعلم طالب الجامعة كيف يفكر، دون أن نضع له حدودًا للتفكير.
كل النقاش الذى حصل حول أفكارى إنما حصل كراهية للنتائج، وليس مناقشة للمقدمات، من أجل نقد النتيجة يجب الانطلاق من نقد المقدمات، ويجب أن يكون النقد صادقًا، ما كان للعرب أن يقبلوا بوجود نبى مرسل ما لم يكن مفهوم الوحى قارًا ومستقرًا فى الثقافة، أن يكون القرآن مصدرًا إلهيًا فهذه مسألة إيمانية، وأنا أنطلق هنا من حكم انتمائى إلى الفضاء الثقافى الإسلامى.
ما أود قوله إن بعض الناس لم يقرأوا كتابى «مفهوم النص» لكنهم قرأوا المقدمة، وتحمسوا كثيرًا له ولا سيما أنهم وجدوا فى هذه المقدمة هجومًا على التيارات الإسلامية المتطرفة والتخلف العقلى.
ويضع نصر أمامنا واقعة تدلنا على حقيقته، حقيقة أنه باحث متجرد، يريد أن يصل إلى الحقيقة، وفى الوقت نفسه يرفض تمامًا استخدام ما يقول أو يصل إليه فى معارك أيديولوجية أو تحقيق أهداف سياسية.
أحد هؤلاء المثقفين الذين لم يقرأوا كتابه «مفهوم النص» جلس إليه ودار بينهما هذا الحوار:
المثقف: يا دكتور الكتاب رائع وفتح، لكن إنت متردد ليه؟
نصر: متردد.. متردد فى إيه؟
المثقف: لماذا لم تقل إن القرآن من تأليف محمد؟
نصر: ده مش رأيى، القرآن نزل من السماء هذا يقينى، وإذا كنت إنت شايف إنه من تأليف محمد اكتب حضرتك كتابًا، وقل فيه هذا، أما أنا فلا.
كان يمكن أن يصمت نصر، أن يحظى برضا من يحدثه عن إنكاره لسماوية القرآن، لكنه لم يكن يعمل لينال رضا أحد، كانت لديه قناعة أعتقد أنها تفسره لنا جيدًا، فلا يمكن يشغله أن يكون أقلية أو يكون أكثرية، المهم لديه أن يعمل ويترك عمله للآخرين.
المشكلة أن الآخرين لم ينصفوه، من كرهوه كفروه، ومن أحبوه خذلوه، فلم يكن لديهم إلا الكلام الذى سرعان ما تبخر فى الهواء.
كان نصر على يقين من صدق جده الروحى الشيخ أمين الخولى الذى قال: تكون الأفكار ملحدة، ثم كافرة، ثم يمضى الزمن دورته، فتصبح أفكارًا تتغير بها الحياة.
كان يعرف أن هذا اليوم سيأتى وتنال أفكاره ما تستحقه، لكن حدث ما عكر صفوه العلمى.
يقول: أعتقد أن الناس لم يقرأونى بشكل مباشر، هم قرأونى بعين عبدالصبور شاهين، تصور أن شخصًا مثل مصطفى محمود قال: الشيخ عبدالصبور قال، محمد الغزالى قال، أيضًا الشيخ عبدالصبور قال، هذه من أشد علامات البؤس الثقافى، أن يؤخذ الحق بالرجال ولا يحاكم الرجال على أساس الحق، أحد البرلمانيين العرب قال عنى: يقول فى كتابه «مفهوم النص» إن الله غير موجود، لا يمكن فى هذا البؤس أن يوجد فكر أكثرية أو فكر أغلبية يخترق هذا البؤس.
ولأن الناس قرأوا نصر بعيون الآخرين فقد ظلموه.. وهو ما جعل العواصف تحيط به من جانب، لتبدأ فى حياته قصة جديدة.
غدًا.. العاصفة.. كيف وجد نصر نفسه فى جحيم المكفرين؟