من مكة إلى القاهرة.. رحلة الإمام الشافعي لطلب العلم
في رحلته لطلب العلم، تنقل أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ المعروف بـ"الإمام الشافعي"، إلى مكة، والمدينة، واليمن، والعراق، وقصد في نهاية الأمر مصر بعد أن نهل من علم وشيوخ علماء مكة والمدينة واليمن والعراق، وبقى فيها ونشر مذهبه الذي يعرف بـالمذهب الشافعي".
يُعد الإمام الشافعي، ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، وهو أيضًا إمام في علم التفسير وعلم الحديث، وعمل قاضيًا إذ عُرِفَ بالعدل والذكاء.
رحلة الشافعي من مكة للقاهرة
كان الشافعيُّ يدعو إلى طلب العلم فيقول: «من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبُل قدره، ومن نظر في اللغة رَقَّ طبعُه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه».
توجّه الإمام الشافعي بعد رحلته الثانية إلى بغداد قاصدًا مصر سنة 199 هـ ، فكان لا بد للرحيل إليها ذلك أن واليَها عباسيٌ هاشميٌ قرشيٌ، قال ياقوت الحموي: «وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس بن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله بن عباس دعاه، وكان العباسُ هذا خليفةً لعبد الله المأمون على مصر».
قبيل توجهه إلى مصر بعد رحلة طويلة نهل خلالها من العلم الغزير، لم يَطِبْ للشافعي المقامُ ببغداد، وكان لا بد من الرحيل منها، ولم يجد مهاجَرًا ولا سَعةً إلا في مصر، وقدم القاهرة سنة 199 هـ، وكث فيها خمس سنوات إلى أن توفي سنة 204 هـ، حيث رُوي عن الربيع بن سليمان أنه قال: وقال لي يوماً (يقصد الشافعي): «كيف تركت أهل مصر؟»، فقلت: «تركتهم على ضربين: فرقةٌ منهم قد مالت إلى قول مالك، وأخذت به واعتمدت عليه وذبَّت عنه وناضلت عنه، وفرقةٌ قد مالت إلى قول أبي حنيفة، فأخذت به وناضلت عنه»، فقال: «أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله، وآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعاً». قال الربيع: «ففعل ذلك والله حين دخل مصر».
وخلال إقامته في مصر، نزل الإمام الشافعي على أخواله الأزد، قال ياسين بن عبد الواحد: لما قدم علينا الشافعي مصر، أتاه جَدِّي وأنا معه فسأله أن ينزلَ عليه، فأبى وقال: «إني أريد أن أنزل على أخوالي الأزد»، فنزل عليهم. وقد ذكر الإمام أحمد أن الشافعي قصد من نزوله على أخواله متابعةَ السنةِ فيما فعل النبي حين قدم المدينة من النزول على أخواله، فقد نزل النبي حين قدم المدينة على بني النجار، وهم أخوال عبد المطلب.
وقال هارون بن سعد الأيلي: ما رأيت مثل الشافعي، قدم علينا مصر، فقالوا: «قدم رجلٌ من قريش»، فجئناه وهو يصلي، فما رأيت أحسنَ صلاةً منه، ولا أحسنَ وجهاً منه، فلما قضى صلاته تكلم، فما رأيت أحسنَ كلاماً منه، فافتتنَّا به.
وعندما أراد الشافعي السفر إلى مصر قال هذه الأبيات:
لقد أصبحتْ نفسي تتوق إلى مصرِ *** ومن دونها قطعُ المهامةِ والقفرِ
فواللـه ما أدري، أللفوزُ والغنى *** أُساق إليها أم أُساق إلى القبرِ
قيل: فوالله لقد سيق إليهما جميعًا.
ووجد الإمام الشافعي أن أصحاب المذهب المالكي يتعصبون بشدة للإمام مالك ويقدمونه في الفقه على حديث رسول الله، ققال الإمام البيهقي «إن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك (أي في الرد على مالك) لأنه بلغه أن ببلاد الأندلس قلنسوة كانت لمالك يُستسقى بها.
وألَّف الإمام الشافعي كتابًا يرد به على الإمام مالك وفقهه، فغضب منه المالكيون المصريون بسبب الكتاب وأخذوا يحاربون الشافعي، وتعرض للشتم القبيح المنكَر من عوامهم، والدعاء عليه من علمائهم، إذ يقول الكندي: لما دخل الشافعي مصر، كان ابن المنكدر يصيح خلفه: «دخلتَ هذه البلدة وأمرنا واحد، ففرّقت بيننا وألقيت بيننا الشر. فرّقَ الله بين روحك وجسمك».
اصطدم الإمام الشافعي بأحد تلاميذ الإمام مالك المقربين ممن ساهم بنشر مذهبه في مصر، وهو أشهب بن عبد العزيز، وكان أشهب يدعو في سجوده بالموت على الإمام الشافعي، حيق روى ابن عساكر عن محمد بن عبد الله بن عبدِ الْحَكَمِ أَنَّ أَشْهَبَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «اللَّهُمَّ أَمِتْ الشَّافِعِيَّ، فَإِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَهُ اِنْدَرَسَ مَذْهَبُ مَالِكٍِ»، كما وروى ذلك ابن مندة عن الربيع أنه رأى أشهب يقول ذلك في سجوده. ثم قام المالكية بضرب الإمام الشافعي ضرباً عنيفاً بالهراوات حتى تسبب هذا بقتله وعمره 54 عاماً فقط، ودُفن بمصر.