شكوت لهم سوء حفظى.. شيوخ أثروا فى رحلة الإمام الشافعى
تنقل أبوعبدالله محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ، المعروف بـ«الإمام الشافعي»، وثالث أئمة المذاهب السنية الأربعة للفقه الإسلامي، في طلب العلم إلى مكة، والمدينة واليمن، والعراق، وقصد في نهاية الأمر مصر وبقى فيها ونشر مذهبه الذي يعرف بـالمذهب الشافعي، إلى أن توفي ودفن فيها سنة 204هـ.
حيث تأثر خلال رحلاته بشيوخ وعلماء أخذ العلم عنهم، وأثروا فيه وكانوا سببًا في وضعه المذهب الشافعي، فاستقر بالقاهرة في نهاية الأمر إلى أن توفي ودفن في مقبرة عائلة عبدالله بن عبدالحكم، ويقع الضريح في قلب قرافة الإمام الشافعي، بالقرب من ميدان السيدة عائشة وسط القاهرة.
شيوخ تأثّر بهم الشافعي
بداية الإمام الشافعي، كانت اتجاهه إلى التفصُّح في اللغة العربية، فخرج في سبيل هذا إلى البادية، ولازم قبيلة هذيل، ولما عاد الشافعي إلى مكة تابع طلب العلم فيها على من كان فيها من الفقهاء والمحدثين، فبلغ مبلغًا عظيمًا، إذ كان من أبرز من أخذ العلم عنهم «سفيان بن عيينة» إمام أهل الحديث، توفي سنة 198هـ؛ و«مسلم بن خالد بن مسلم بن سعيد» كان فقيهًا عابدًا زاهدًا وتوفي سنة 180هـ؛ و«داود بن عبدالرحمن العطار» وتوفي سنة 174هـ؛ و«عبدالمجيد بن عبدالعزيز الأزدي المكي» وتوفي سنة 206هـ؛ و«سعيد بن سالم القداح» الملقب بـ«أبوعثمان» وتوفي سنة 200هـ.
بعد تلقيه العلم على يد شيوخ مكة، أذن له «مسلم بن خالد الزنجي» مفتي مكة بالفتيا، فقد روي عن مسلم بن خالد الزنجي أنه قال للشافعي: «أفتِ يا أبا عبدالله، فقد والله آن لك أن تفتي»، وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: وهو ابن دون عشرين سنة.
بعد تركه مكة المكرمة، توجّه الإمام الشافعي لمدينة رسول الله- المدينة المنورة- لتلقي العلم على أيدي شيوخها وعلمائها، وقابل بها العديد من كبار علماء المدينة ممن تتلمذ على يديه، وأثر في رحلته العلمية، إذ كان من بينهم، مالك بن أنس، والمعروف بـ«أبوعبدالله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري المدني» المتوفي سنة 179 هجريًا، والملقب بشيخ الإسلام وحجة الأمة وإمام دار الهجرة ومفتي الحجاز وفقيه الأمة وسيد الأئمة، وصاحب الكتاب الشهير «الموطأ»، ويعد ثاني الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب المالكي في الفقه الإسلامي.
ومن أخذ الشافعي علمه وتتلمذ على يده أيضًا في المدينة «أبومحمد عبدالعزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد المدني الدراوردي»، فهو محدث من تابعي التابعين، يعده علماء الجرح والتعديل من الثقات وربما يهم في حديثه، أو يسيء الحفظ، وتوفي سنة 187 هجريًا بالمدينة.
ونهل الشافعي وهو في المدينة من علم شيخه المحدث «إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي»، المعروف بـ«أبو إسحق المدني الفقيه»، المتوفى سنة 184هـ، إضافة إلى أخذه العلم على يد «عبدالله بن نافع القرشي المخزومي»، الملقب بـ«أبومحمد»، والمتوفي سنة 206 هـ بالمدينة، و«إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الأنصاري»، الملقب بـ«أبوإسحاق»، المتوفي سنة 183هـ.
لم يتوان الإمام الشافعي عند هذا الحد، بل ترجّل إلى أقصى الجزيرة العربية جنوبًا قاصدًا اليمن، ليتتلمذ على أيدي شيوخها وعلمائها الذين أثروا فيه، من بينهم «مطرِّف بن مازن الكناني» قاضي صنعاء، كان من الأخيار الصلحاء وتوفي سنة 191 هـ؛ و«هشام بن يوسف الصنعاني الأبناوي»، قاضي صنعاء والمتوفي سنة 197هـ؛ و«عمرو بن أبي سلمة التنِّيسي» أصله من دمشق، وسكن تنيس وتوفي سنة 214 هـ؛ و«يحيى بن حسان بن حيان التِّنيسي البكري» الملقب بـ«أبو زكريا البصري» سكن تنيس ونسب إليها وتوفي سنة 208 هـ.
وتوجّه أقصى الشمال قاصدًا بلاد الرافدين- العراق-، ليزيد من علمه مستهدفًا علماءها وشيوخها ليحفظ على أيديهم العلم، إذ كان من بينهم «وكيع بن الجراح بن مليح الرُّؤَاسي»، محدث الكوفة والملقب بـ«الحافظ ابن الحافظ» وتوفي سنة 197هـ؛ و«حماد بن أسامة بن زيد القرشي» وتوفي سنة 201 هـ؛ و«محمد بن الحسن الشيباني» صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان، وناقل فقهه، توفي سنة 189هـ؛ و«إسماعيل بن إبراهيم الأسدي» المعروف بـ«أسد خزيمة» وأصله كوفي وتوفي سنة 193هـ؛ و«عبدالوهاب بن عبدالمجيد بن الصلت بن عُبيد الله بن الحكم بن أبي العاص الثقفي» ويلقب بـ«أبومحمد» وتوفي سنة 194هـ.
بعد رحلاته في أخذ العلم، عاد الإمام الشافعي مرة أخرى إلى مكة، ومعه من كتب العراقيين حِملُ بعير، وأخذ يُلقي دروسه في الحرم المكي، والتقى به أكبر العلماء في موسم الحج، واستمعوا إليه، وفي هذا الوقت التقى به أحمد بن حنبل، وأخذت شخصية الشافعي تظهر بفقه جديد، لا هو فقهُ أهلِ المدينةِ وحدَهم، ولا فقهَ أهلِ العراقِ وحدَهم، بل هو مزيج منهما وخلاصةُ عقل الشافعي الذي أنضجه علم الكتاب والسنة، وعلمُ العربية وأخبار الناس والقياس والرأي، ولذلك كان من يلتقي به من العلماء يرى فيه عالمًا هو نسيجٌ وحدَه.
وقدم الشافعي بغداد للمرة الثانية في سنة 195 هـ، وقد قدم وله طريقةٌ في الفقه لم يسبق بها، وجاء وهو لا ينظر إلى الفروع يفصِّل أحكامَها وإلى المسائل الجزئية يفتي فيها فقط، بل جاء وهو يحمل قواعد كلية، أصَّل أصولها، وضبط بها المسائل الجزئية، فقد جاء إذن بالفقه علمًا كليًا لا فروعًا جزئيةً، وقواعدَ عامةً لا فتاوىً وأقضيةً خاصةً، فرأت فيه بغداد ذلك، فانسال عليه العلماء والمتفقهون، وطلبه المحدثون وأهل الرأي جميعًا.
توجّه الإمام الشافعي بعد رحلته الثانية إلى بغداد قاصدًا مصر سنة 199 هـ، فكان لا بد للرحيل إليها ذلك أن واليَها عباسيٌ هاشميٌ قرشيٌ، قال ياقوت الحموي: «وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس بن عبدالله بن العباس بن موسى بن عبدالله بن عباس دعاه، وكان العباسُ هذا خليفةً لعبدالله المأمون على مصر».