رجاء النقاش يكتب:«موليير» أبو المسرح وعدو التطرف
يرى بعض الفلاسفة أن أفضل تعريف للإنسان هو أنه «حيوان ضاحك». وذلك لأن الإنسان وحده هو الذى يضحك، فليس هناك حصان يضحك، ولا دجاجة تقهقه وكل الكائنات على هذه الأرض لا تعرف الضحك، باستثناء الإنسان، والضحك فى حياة الناس قوة تدفع إلى النشاط، وتساعد على العمل الشاق، وتجدد حيوية القلب والذهن، وتحل مشكلات وأزمات قد لا يستطيع الإنسان حلها إذا استسلم للتجهم والاكتئاب والتشاؤم. على أن من الأخطاء التى كثيرًا ما نقع فيها هو أن نتصور الضاحكين من البشر على أنهم جماعة من أصحاب القلوب الجامدة، والعقول الفارغة، والبال الخالى من الهموم والمشاغل. وعلى العكس من ذلك تمامًا، فقد يكون الضاحكون من أكثر الناس تجربة للألم ومعرفة به ومعاناة له. وأمثال هؤلاء يطلقون الضحكات من قلوب حزينة، ويجعلون من الضحك سلاحًا يواجهون به متاعب الحياة وما فيها من مخاطر ومتاعب ومنغصات. وهذا واحد منهم هو الفنان الفرنسى العظيم «موليير» الذى عاش بين ١٦٢٢ و١٦٧٣، ومات وهو فى الواحدة والخمسين من عمره... أضحك الناس فى عصره، ولا يزال يضحك الناس بعد موته بأكثر من ثلاثمائة سنة، وسيظل يضحك الناس خلال أجيال كثيرة قادمة، ولكننا حين ننظر إلى صفحات حياته لا نجد فيها إلا ما يبعث على الحزن والألم والإكبار، ولعله واحد من هؤلاء البشر الذين تمتلئ كل أيامهم بالمتاعب، ويتعرضون لحروب وعداوات قاسية. ولا يعرفون طعم السعادة حتى فى حياتهم الخاصة. وكان من الطبيعى أن يكون «موليير» نتيجة لهذه الظروف الصعبة فنانًا يثير الدموع فى العيون، بدلًا من أن يكون ضاحكًا ومضحكًا، بحيث يضحك الناس لمجرد أن يسمعوا اسمه أو يذكروه على لسانهم. قصة حياة هذا الفنان درس نادر فى فن «المقاومة» عن طريق الضحك لكل الآلام والمصاعب. وقصة حياته تقول لنا: أيها الذين ينكسرون عند أول «خبطة».. اضحكوا، وردوا على سخف الحياة بالسخرية منها. فإن الضحك والسخرية هما أفضل دواء يؤدى إلى الشفاء من كل أمراض الحياة، وفى قصة حياة «موليير» ما يفسر لنا فلسفة الضحك على أفضل صورة، فالضحك يعنى- عندما يصبح فلسفة- أن تكون متسامحًا، وصبورًا، وقادرًا على التحمل والمواجهة، وصاحب إصرار على أن تتغلب على ما يؤذيك ويعطلك ويعمل على الإساءة إليك وإفساد كل ما هو جميل فى حياتك.والضحك الحقيقى يعلم الناس الكبرياء؛ لأن الضحك لا بد أن يقوم على الصدق والملاحظة الدقيقة للأشياء، والاعتراض السريع على كل ما هو «غلط»، ولو حرص الإنسان على معاملة الحياة بهذه الطريقة، فإنه لا يستطيع أن يكذب على نفسه أو غيره، ولا يستطيع أن يرضى بما ترفضه نفسه ويذكره ضميره، وهذه كلها من صفات أصحاب الكبرياء فى الأرض. كان موليير يعيش فى عصر الملك لويس الرابع عشر ١٦٣٨ - ١٧١٥، وهو ملك جبار طاغية كان يقول عن نفسه «أنا الدولة». وكان المؤرخون المعاصرون له يسمونه باسم «الملك الشمس»؛ لأنه رغم استبداده وطغيانه جعل من فرنسا قوة كبرى يحسب لها العالم فى ذلك العصر كله ألف حساب. والغريب أن هذا الملك الطاغية كان يسيل رقة وعذوبة أمام «موليير»، وكان يحبه ويسانده- سرًا وعلانية- ضد كل أعدائه، وكان يحرص على حضور كل مسرحية من مسرحياته مرات عديدة، وهكذا «لان» الطغيان أمام فن «موليير» واستطاع الفنان أن يقود الملك الطاغية إلى كثير من الإصلاحات التى تنفع الناس والمجتمع. وفى يوم من الأيام سأل لويس الرابع عشر أكبر ناقد فى عصره وهو «بوالو» هذا السؤال: قل لى يا بوالو.. من هو أعظم أصحاب الأقلام فى أيامنا هذه؟ وأجاب «بوالو» بلا تردد هو «موليير... يا مولای» وهز الملك رأسه موافقًا على رأى الناقد. ولكن «موليير» لم يكن صاحب قلم فقط. نعم.. لقد كان شاعرًا وكاتبًا مسرحيًا من الطراز الرفيع. ولكنه كان إلى جانب ذلك ممثلًا ومخرجًا ومديرًا لفرقة مسرحية تضم خمسين فنانًا على الأقل، وكان كل هؤلاء الفنانين مرتبطین به محبين له، وظل هذا الارتباط القوى قائمًا بينهم وبينه حتى وفاته فى ١٧ فبراير سنة ١٦٧٣، ففى يوم وفاته أصر «موليير» على أن يقوم بالتمثيل كعادته كل ليلة، وتوسلت إليه زوجته أن يستريح فى تلك الليلة لأنه مريض، فأجابها بحزم ماذا تريديننى أن أعمل؟ هناك خمسون فردًا فى فرقتى يكسبون قوتهم بالعمل يومًا بيوم، فماذا يمكن أن يفعل هؤلاء جميعًا إذا توقفت عن التمثيل؟ إننى لا بد أن ألوم نفسى أشد اللوم لو توقفت عن العمل معهم، طالما أنا قادر على أن أقف على أقدامى. وفى هذه الليلة بالتحديد، وفوق خشبة المسرح كانت نهاية «موليير»، فقد كان يمثل فى تلك الليلة دور «أرجان» فى مسرحيته المعروفة «المريض بالوهم»، وأخذته نوبة سعال وهو يمثل دوره، فأخفاها بضحكة مفتعلة وأنهى المسرحية، وكما يقول «ديورانت»، مؤلف قصة الحضارة: أخذته زوجته «أرماندا» والممثل الشاب «ميشيل بارون» إلى بيته، وهناك اشتد سعاله وانفجر فيه عرق، فاختنق بالدم فى حلقه ومات. وهكذا كانت نهاية هذا الفنان العظيم فوق خشبة المسرح الذى أحبه وأعطاه كل حياته وجهده فكانت نهايته أشبه بنهاية الجندى الشجاع فى ساحة معركة حربية عنيفة، مات فيها ميتة الشرف والكرامة.