رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كانت ملكة فى البيت والحقل:

المرأة المصرية التى لا تعرفها «الجوارى الجدد»!

كانت الحياة فى مصر القديمة حافلة بالكثير من المظاهر والظواهر والأحداث والاحتفالات. وفى هذه السلسلة من المقالات، نتعرف إلى الكثير من أسرار تلك الحياة وصراعاتها السياسية والإقليمية، خلال ذلك الزمن البعيد من عمر الحضارة الإنسانية وتاريخ مصر القديمة، فجر ضمير الإنسانية، وصاحبة أعرق حضارة بشرية عرفها العالم قديمًا وحديثًا.

حين قام الملك حور عحا أو الملك مينا، كما نعرفه، بتوحيد مصر شمالًا وجنوبًا، ليحقق بذلك حلم أبيه الملك نعرمر، وكذلك حلم الأمة المصرية قاطبة. ودخلت مصر عصورها التاريخية. وكتبت بذلك أزهى صفحات التاريخ الإنسانى، خاصة فى الجوانب الاجتماعية والحياتية فى الحياة اليومية للمصرى القديم.

وضعت مصر القديمة نظامًا قضائيًا عادلًا يُنفّر من الجريمة ويُقر العقاب. وتم تقدير المرأة فى مصر القديمة بشكل كبير. وسبق بذلك المصريون العالم كله. وعاش المصريون القدماء زمنهم بكل سعادة ومتعة. وعرفوا الحب. وعملوا الخير. وقدسوا الحق. وصلوا للجمال. 

هيا بنا ندخل معًا إلى عمق أسرار الحياة الاجتماعية فى مصر القديمة؛ كى نعرف ليس حياة الملوك والطبقة الحاكمة فقط، بل كى نعرف حياة المصريين العاديين من مختلف الطبقات فى المجتمع المصرى القديم. ويا لها من رحلة مثيرة وشيقة فى رحلة الزمن عبر تاريخ الحضارة المصرية العظيمة.

الأسرة

كانت الأسرة شيئًا مهمًا فى حياة المصرى القديم، ولطالما نصح الحكماء الشباب بالزواج وتكوين أسرة متى استطاعوا لذلك سبيلًا، فمثلًا ينصح بتاح حتب من الدولة القديمة ابنه قائلًا:

- إذا كنت كفئًا، فأسّس لنفسك بيتًا.

وينصح الحكيم آنى من الدولة الحديثة ابنه بالزواج المبكر فيقول له:

- اتخذ لنفسك زوجة وأنت شاب كى تُرزق بولد، إذا أنجبته لك فى شبابك علّمه ليكون نافعًا، ما أسعد الرجل الذى يُكثر أهله ويحترم من أجل أبنائه.

لقد انعكست البيئة المحيطة على حياة المصرى القديم الاجتماعية منذ القدم، فمال إلى الاستقرار وتكوين الأسرة وإنجاب أبناء يدعمونه اجتماعيًا واقتصاديًا والأهم من هذين السببين هو استمرار ترديد اسمه على الأرض، والمحافظة على تأدية الطقوس له بعد وفاته.

فى الغالب يصور صاحب المقبرة بحجم أكبر من بقية الأشخاص الآخرين، ويظهر يشاهد أو يشارك فى الأنشطة المختلفة. وكثيرًا ما تصحبه زوجته وأبناؤه فى أنشطة معينة. وفى تلك الحالة تظهر الزوجة بحجم مساوٍ نتيجة لتساوى وضعها الاجتماعى مع زوجها، أو تظهر ممسكة بإحدى رجليه. ومن الخطأ التفكير أن هذا التمثيل يقلل من شأنها الاجتماعى.

ودائمًا يصور الأبناء فى حجم أصغر من الآباء، والابن الأكبر يظهر غالبًا فى حجم أكبر من بقية الأبناء، أو حتى مساويًا لحجم أبويه إذا كان بالفعل بالغًا، أما والدا صاحب المقبرة فلم يكن من الشائع أن يُمثلا فى مقابر أبنائهما، وتفسير ذلك هو موتهما قبل أن يبدأ بناء وتزيين المقبرة. وإذا ظهرا فإنهما يمثلان فى حجم مساوٍ لحجم ابنهما صاحب المقبرة.

ومن الجدير بالذكر أن فى بعض أجمل المقابر الملونة لم تظهر لا الزوجة ولا الأبناء. ومن غير المؤكد فى هذه الحالة إذا كان صاحب المقبرة مطلقًا أو أرملًا أو غير متزوج، أو أنه ببساطة لم يرغب فى أن يمثل عائلته فى مقبرته، على الرغم من أن الافتراض الأخير غير محتمل. 

وعند تصوير نساء الطبقة الأرستقراطية، كانوا يؤكدون وجود نماذج معينة، وكان ذلك النموذج هو الجمال الشبابى، مع التركيز على الأرداف والصدر، وهى مناطق الجسد المرتبطة بالإنجاب. وعندما كانت تصور المرأة مع زوجها كانت تضع ذراعها حول كتفه أو حول وسطه. وعلى الرغم من أن المجتمع المصرى كان الرجال مسيطرين عليه، فإن كثرة ظهور النساء الأرستقراطيات بجانب أزواجهن وأبنائهن تؤكد أنهن لعبن دورًا مهمًا فى المجتمع.

وعبرت المناظر عن العلاقة الوثيقة بين الآباء والأبناء فى كل العصور؛ ففى عصر الدولة القديمة مثل الأبناء مع آبائهم يتفقدون الأنشطة اليومية المختلفة. وفى الدولة الحديثة نرى كل أفراد الأسرة فى رحلة إلى أحراش البردى، يصطادون الطيور والأسماك. كما كان الابن الأكبر يذهب للصيد مع والده فى الصحراء.

ومن المفترض أن الأطفال كان يحبون ويقدرون آباءهم ويعتنون بهم فى مرضهم وشيخوختهم. وبالرغم من أنه كان من واجبات الابن الأكبر دفن والديه والاعتناء بإقامة الشعائر الجنائزية لهما والحفاظ على اسميهما حيين، فإن الأبناء الآخرين أولادًا وبناتًا كانوا يُجبرون على فعل المثل؛ فالأبناء الذين لا يعتنون بآبائهم كانوا يُحرمون من الميراث.

فى عائلات الطبقة الأرستقراطية، كانت الزوجة فيها مسئولة عن إدارة شئون المنزل، بينما كان زوجها يعمل فى الخارج. وعكست تلك الحقيقة اللقب الشائع «سيدة الدار» فى البيوت الكبيرة. وكان اللقب يعنى الإشراف على عمل الخدم. وفى البيوت الصغيرة، كانت النساء تطحنّ الحبوب وتخبزن الخبز وتعدن الطعام. وربما كن أيضًا مسئولات عن الغزل والنسيج.

كما شاركت النساء فى الطقوس الجنائزية لأزواجهن، وبرغم أنها كانت تتم أصلًا بواسطة الابن الأكبر، جعلتنا بعض النقوش على اللوحات الجنائزية نفترض أن نساء العائلة لعبن دورًا فى هذا الصدد؛ فقد شوهدن يحرقن البخور ويصببن السوائل ويقدمن القرابين.

ولم يصور زوجة وأبناء وأقارب صاحب المقبرة على جدران المقابر وهم يتشاركون القرابين فقط «بالنسبة للأجيال الأصغر فقد كان من المفترض أن يقدموا القرابين»، ولكنهم كانوا يشاركون فى كل الولائم التى تعمل لتبجيل المتوفى.

ولم توجد هناك حدود فاصلة فى تلك المناظر بين أعضاء العائلة الأحياء وقت جنازة صاحب المقبرة، وبين من هم كانوا متوفين أصلًا. ومن الاحتفالات التى كان يجتمع فيها الأحياء مع أسلافهم المتوفين «عيد الوادى»، الذى كان يتم سنويًا فى طيبة. وكان خلال الاحتفال يعبر أعضاء العائلة إلى الجبانة، ويفتحون المقبرة، ويعدون وجبة يتم تناولها فى حضرة المتوفى.

وقد كان ينضم إليهم الكهنة والكاهنات، حاملين الزهور العطرية من معبد الدير البحرى، حيث إنها كانت رمزيًا تعطى الحياة للمتوفى. ومن هنا يتضح أن هذا الاحتفال كان من الصعب إقامته دون مشاركة أفراد العائلة، وأنهم سبب استمرار الطقوس الجنائزية فى مصر القديمة.

كانت الأسرة هى أساس كل شىء فى مصر القديمة. 

حقوق المرأة

كان الزواج فى مصر القديمة شأنًا خاصًا تمامًا لم تهتم به الدولة ولم تسجله. ولا يوجد دليل على أى احتفال قانونى أو دينى لتأسيس الزواج، على الرغم من وجود حفلة على الأرجح.

ويروى الجزء المحفوظ من قصة ستنا خع إم واس الأولى من العصر المتأخر، كيف وقع نا نفر كا بتاح وإيحورت فى الحب وأرادا الزواج. ووافق والداهما، لذلك انتقلت إيحورت إلى منزل نا نفر كا بتاح، وقدم الناس «خاصة والد العروس» الهدايا، وكانت هناك حفلة كبيرة، ونام الاثنان معًا، ثم عاشا معًا وأنجبا طفلًا.

لكن كان الزواج فى الأساس عبارة عن اتفاق بين شخصين وعائلاتهما على العيش معًا وإنشاء أسرة. وتم استخدام نفس المفردات لكل من النساء والرجال. وعلى الرغم من أن معظم الزيجات قد تم ترتيبها بناءً على رغبة الزوج ووالدى العروس، فإن هناك أيضًا صورة أدبية متكررة لفتاة تقنع والدها بالسماح لها بالزواج من الرجل الذى ترغب فيه، بدلًا من اختيار الأب.

وحلل العلماء المعاصرون دور المرأة فى العديد من المجتمعات، من القديم إلى الحديث، كسلعة يبيعها الأب ويشتريها الزوج. ويمكن لبعض الأدلة المصرية القديمة أن تشير إلى أن هذا كان أو كان صحيحًا فى مصر القديمة أيضًا.

فعلى سبيل المثال، قد يعطى الرجل هدية إلى والد زوجته المحتمل، والتى يمكن تفسيرها على أنها «شراء» ابنة الرجل كزوجة. لكن الهدية التى قد يقدمها الرجل إلى والد زوجته المستقبلى تم تحليلها أيضًا على أنها تعمل على كسر الزوج للحواجز بين المرأة وعائلتها الأساسية، حتى يتمكن الزوجان الجديدان من تأسيس عائلتهما كمركز لحياتهما.

على الرغم من أن المرأة كانت من الناحية القانونية مساوية للرجل، ويمكنها التعامل فيما يخص الملكية على قدم المساواة مع الرجل، فإن الدور الاجتماعى والعام للمرأة اختلف اختلافًا كبيرًا عن دور الرجل.

وعلى الرغم من وجود بعض الأمثلة التى كانت فيها الزوجة أقوى أو أكثر أهمية من الزوج «حسب الأسرة أو الثروة أو الشخصية»، فإن معظم المصريين القدماء مالوا إلى الزواج من شخص من طبقتهم الاجتماعية.

وهكذا، تزوجت كثيرًا المرأة رجلًا من نفس المهنة أو مهنة مماثلة لأبيها وأخيها «أو إخوتها». ولم يكن ذلك ناتجًا عن القوانين أو القيود الرسمية، ولكن ببساطة كان ناتجًا من حقيقة أن تلك كانت مجموعة الأشخاص الذين كان الشخص أكثر اتصالًا بهم، وكان أكثر راحة معهم.

كان الطلاق والزواج شائعين فى مصر القديمة فى جميع العصور. وكان الخلاف بين الأشقاء والأخوة غير الأشقاء متكررًا. ولتأكيد صلة القرابة للأشقاء، حددت المصادر الأدبية والوثائقية كثيرًا أنهم يشتركون فى نفس الأب والأم.

ولحل النزاعات المحتملة قبل ظهورها، تم الاعتماد على النفعية العملية أو الواقعية إلى حد ما، من خلال جعل الأب يحصل على إذن من أبنائه الأكبر سنًا، الذين قد يفقدون جزءًا من ميراثهم بسبب زواجه.

ونظرًا لأن الرجال، حتى الرجال الناضجين، كانوا يعتمدون اقتصاديًا على الوالدين، خاصة الآباء، حتى وفاة الوالدين، فكان من مصلحة الابن أيضًا الموافقة على زواج والده مرة أخرى «وليس المخاطرة بالتمزق والحرمان التام من الميراث».

وبالتالى، تمت تلبية رغبات واحتياجات الجميع من خلال جعل الجميع يوافق على ما يريده بعض الأشخاص على الأقل. وتناسب ذلك النمط مع الملاحظة التى أشارت إلى أن الاتفاق وحل النزاع، بدلًا من «العدالة المجردة»، كانا غالبًا هدف قرارات المحاكم المصرية القديمة.

يبدو أن أمر الطلاق والزواج كان سهلًا وشائعًا نسبيًا. وهناك القليل من الأدلة المقنعة على تعدد الزوجات، باستثناء زواج الملك من أكثر من امرأة، ولكن هناك أدلة كثيرة على «الزواج الأحادى المتسلسل».

وكان يمكن لأى من الطرفين تطليق الزوج لأى سبب، أو بشكل أساسى، دون أسباب، ودون أى مصلحة أو سجل من جانب الدولة. وعكست مفردات الطلاق، مثل تلك المستخدمة فى الزواج، حقيقة أن الزوجين كانا فى الأساس يعيشان معًا، ثم حدث أن رجلًا «ترك» امرأة، وأن امرأة «ذهبت (بعيدًا عن رجل)»، أو «تركت» رجلًا.

على الرغم من أنه لم يكن على أى من الطرفين تقديم أسباب قانونية أو اجتماعية أو معنوية أو أخلاقية للطلاق، فإن المسئوليات الاقتصادية المنصوص عليها فى عقود الأقساط جعلت تلك خطوة جادة.

وبالتالى، كانت عادةً المرأة المتزوجة مدعومة من قِبل زوجها، طالما بقيت متزوجة، وكانت ممتلكاته مستحقة لأبنائها. وبما أن الزواج مرة أخرى بعد وفاة الزوجة الأولى كان يمكن أن يؤدى إلى نزاع حول حقوق الملكية والميراث، فإن الطلاق والزواج مرة أخرى كان يمكن أن يؤدى إلى نزاعات قانونية كبيرة.

إذا طلق الرجل زوجته، فكان عليه إعادة مهرها «إذا أحضرت مهرًا» ودفع غرامة لها. وإذا طلقته، فلا غرامة عليه بالمرة. والزوج المُطلق أو الزوجة المُطلقة بسبب الخطأ «بما فى ذلك الزنا» يخسر نصيبه، أو تخسر نصيبها من الملكية المشتركة للزوجين.

وبعد الطلاق، كان كلاهما حرًا فى الزواج مرة أخرى. لكن يبدو أنه حتى يرد الزوج مهر زوجته ويدفع لها الغرامة، أو حتى تقبلها، كان يظل الزوج مسئولًا عنها، حتى لو لم يعودا يعيشان معًا.

وحاول بعض الأزواج السابقين، كما هى الحال الآن، تجنب إعالة زوجاتهم السابقات، ولدينا عدة إشارات إلى تدخل ودعم أو مساعدة الأسرة الأساسية للمرأة، عندما لا يستطيع زوجها ذلك، أو لا يفعل ذلك. كان المفهوم المصرى القديم لـ«الزنا» يقوم على ممارسة المتزوج الجنس مع شخص آخر غير زوجته، وكان من «الخطأ» أن يرتكب الرجل «الزنا»، كما كانت هى الحال بالنسبة للمرأة. وكان النظام المصرى القديم متمركزًا حول الأسرة. وكانت مصطلحات الزواج والطلاق واحدة لكلا الجنسين.

وتم تعريف «الزنا» من منظور الأسرة وإدانته لكل من الرجال والنساء. ولم تكن ممارسة الجنس من قِبل الأفراد غير المتزوجين مصدر قلق كبيرًا للمجتمع المصرى القديم.

هذه لمحة عامة موجزة عن حقوق المرأة، التى أغفلت بالضرورة العديد من الأسئلة والكثير من التفاصيل، وتطرقت فقط إلى تعقيدات تلك الثقافة القديمة.

ويجب النظر إلى المساواة القانونية الملحوظة التى كانت تتمتع بها المرأة المصرية القديمة، وكذلك قدرتها على امتلاك الممتلكات والتصرف فيها، على ضوء النظام الاجتماعى الذى عاشت فيه، حين كانت الهيمنة للرجال، على الأقل فى نطاق السجلات التى تم حفظها لنا من مصر القديمة.